الصراط
أصول منهج أهل السنة والجماعة
في الاعتقاد والعمل
فضيلة الشيخ/ عبد الرحمن بن عبد الخالق
--------------------------------------------------------------------------------
الحمد لله نحمـده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} (آل عمران:102).. {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجـها، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً} (النساء:1).. {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً} (الأحزاب:70-71)..
وبعد،،،
فهذه بحمد الله وتوفيقه الأصول، والقضايا الكلية لدين الإسلام الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم، وخلاصة اعتقاد أهل السنة والجماعة في قضايا الدين الكبرى وخاصة وفي المسائل التي وقع عليها الخلاف في الأمة..
وقد جمعنا في هذه الأصول والقواعد خلاصة معتقد أهل العلم من أهل السنة والجماعة، وسلفنا الصالح المشهود لهم بالخير.
والهدف والغاية بحـول الله وتوفيقه أن يكون هذا المجموع منهجاً دراسياً لطلاب العلم في العالم الإسلامي أجمع، وكتاباً يدرسه كل من رام جمع أصول معتقد أهل السنة والجماعة، والسير على مناهجهم في الدين، والالتزام بصراط الله المستقيم.
وأني لأشكر أخواني طلاب العلم الذين ساعدوني في جمع وإعداد المادة العلمية لهذا الكتاب سائلاً الله أن يجزيهم أحسن الجزاء.
وختاماً أسأل الله بأسمائه الحسنى وبصفاته العليا قبول هذا العمل، وأن يجعله خالصاً لوجهه
الكريم، وأن يكتب له القبول، وينفع به المسلمين في كل مكان.
وتم الفراغ منه في
19 رمضان المبارك لعام 1417هـ
وكتبه
عبدالرحمن بن عبدالخالق
**********
الباب الأول
مجمل الاعتقاد
الإسلام هو الدين الحق الذي بعث الله به رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل، وسيد المرسلين، وهو دين الله إلى الناس كافة. قال تعالى: {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً} (الأعراف:158).. وقال تعالى: {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً، ولكن أكثر الناس لا يعلمون} (سبأ:28)..
ودين الإسـلام الذي بعث به رسولنا صلى الله عليه وسلم هو دين الله الذي ارتضاه لكافة عباده، وأرسل جميع رسله وأنبياءه بدءاً من آدم عليه السلام وختاماً بمحمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام} (آل عمران:19)..
وقال تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} (آل عمران:85)..
وقال تعالى: {شـرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك، وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء، ويهدي إليه من ينيب} (الشورى:13)
ورسل الله جميعاً وأنبياؤه دعوا إلى دين الإسلام وهو توحيد الله وعبادته وحده، والاستسلام لأمره، والإيمان بالغيب الذي أخبرهم الله به، وإن اختلفت شرائعهم العملية، قال تعالى: {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون} (الأنبياء:92).. وقال: {وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون} (المؤمنون:52)
وقال صلى الله عليه وسلم: [الأنبياء إخوة من علات، وأمهاتهم شتى، ودينهم واحد]. (رواه مسلم) وقال جل وعلا: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} (النحل:36)
وقال: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} (الأنبياء:25)
وقد خلق الله الخلق كلهم لعبادته. الملائكة والإنس والجن. والسماوات والأرض، وكل العالمين: فالله سبحانه وتعالى، هو رب العالمين، والعالمون هم كل ما سوى الله جل وعلا.
وقد شاء الله سبحانه وتعالى أن يكون من عباده من الجن والإنس مؤمن وكافر. قال تعالى: {هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير} (التغابن:2)
وقال تعالى: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين} (هود:118-119)
والإسـلام الذي بُعث به رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم هو دين شامل كامل، وصبغة عامـة، تضبط أعمال الإنسان جميعاً، ويدخل المسلم في صراط مستقيم قد حددت جميع معالمه، وفصلت جميع أحكامه.. بدءاً من طهارة القلب بالإيمان بالله وتوحيده ونهاية بالطهارة الحسية من جميع النجاسات. قال تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} (المائدة:3).. وقال تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة.. الآية} (النحل:89)..
وأركان الإيمان التي يجب على كل مسلم الإقرار بها واعتقادها هي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره من الله تعالى.
الإيمان بالله سبحانه وتعالى
* توحيد الله عز وجل:
وأصل الأصول وأول واجب على المكلف: توحيد الله عز وجل بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (الذاريات:56)
وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: [ليكن أول ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله] (متفق عليه)
* أنواع التوحيد:
فيجب على المكلف توحيد الله عز وجل في ربوبيته، وإلهيته، وحاكميته، وأسمائه، وصفاته.
- توحيد الربوبية: فتوحيده في ربوبيته هو اعتقاد العبد الجازم وتصديقه وإقراره بأن الله هو الرب الخالق والرزاق، رب كل شيء ومليكه، له مقاليد السماوات والأرض، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، لا شريك له في ملكه، ولا ظهير معه ولا ند له ولا نظير قال تعالى: {له ملك السموات والأرض يحيي ويميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير} (التوبة:116)..
وقال تعالى: {تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير}.. (الملك:1) وقال تعالى: {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون} (الزمر:67)
- توحيد الإلهية: وتوحيده في إلهيته بإفراده بالعبادة وهي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة.
والعبودية لله تتضمن غاية الذل والخضوع مع غاية الحب والرجاء والخوف والانقياد له وهذا التوحيد هو معنى (لا إله إلا الله) أي لا معبود بحق ولا يستحق العبادة إلا الله، وهو الفارق بين أهل الإسلام وأهل الشرك والأوثان، وهو دين الرسل كافة.. قـال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبـدوا الله واجتنبوا الطاغوت} (النحل:36) {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} (الأنبياء:25)
وهذا التوحيد هو الذي جحده مشركو العرب مع إقرارهم بالله الخالق الرزاق كما قال تعالى: {ولئن سألتهم من خلـق السموات والأرض ليقولن الله} (لقمان:25).. وقال تعالى: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله} (الزخرف:87)
وحكى عنهم القرآن قولهم: {لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء} (الأنعام:148) وقال تعالى عنهم: {قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون} (يونس:31)
غير أنهم أبـوا أن يوحدوه في عبادته وإلهيته كما في قوله تعالى عنهم: {أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب} (ص:5) فأنكروا أن تكون معبوداتهم وأصنامهم معبوداً وإلهاً واحداً هو الله لا إله إلا هو، وأصروا على إشراكهم في عبادتهم لهذه الآلهة الباطلة وحجتهم هي ما حكاه القرآن عنهم: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} (الزمر:3).. {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} (يونس:18)
ولهذا أرسل الله رسله، وأنزل كتبه ليسلم الخلق له في عبادتهم وطاعتهم ولا يشركوا معه أحداً: {إن الدين عند الله الإسلام} (آل عمران:19)
"فالإسلام يتضمن الاستسلام لله وحده، فمن استسلم له ولغيره كان مشركاً، ومن لم يستسلم له كان مستكبراً عن عبادته، والمشرك به والمستكبر عن عبادته كافر، والاستسلام له وحده يتضمن عبادته وحده، وطاعته وحده.
فهـذا دين الإسلام الذي لا يقبل الله غيره، وذلك إنما يكون بأن يطاع في كل وقت، بفعل ما أمر به في ذلك الوقت" (انظر الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 3/91)
"فإقـرار المشرك بأن الله رب كل شيء، ومليكه وخالقه لا ينجيه من عذاب الله، إن لم يقترن به إقراره بأنه لا إله إلا الله، فلا يستحق العبادة أحدٌ إلا هو، وأن محمداً رسول الله، فيجب تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر..
فإنه سبحانه أخبر عن المشركين كما تقدم بأنهم أثبتوا وسائط بينهم وبين الله، يدعونهم ويتخذونهم شفعاء بدون إذن الله. قال تعالى: {ويعبدون من دون الله مالا يضرهم ولا ينفعهم، ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله، قل أتنبؤون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون} (يونس:18).. فأخبر أن هؤلاء الذين اتخذوا هؤلاء شفعاء مشركون" (انظر الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 3/1056)
* توحيد الحكم:
وتوحيد الله عز وجل في حاكميته هو اعتقاد تفرده في الحكم وأنه الحاكم شرعاً لكل ما يحبه ويرضـاه، وقدراً لكل ما أوجده وقضاه كما قال سبحانه وتعالى: {إن الحكم إلا لله} (الأنعام:57) وقال: {ولا يشرك في حكمه أحداً} (الكهف:26)، وفي قراءة {ولا تشرك في حكمه أحداً} وقال سبحانه: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} (المائدة:49)، وقال سبحانه: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} (المائدة:44).. {الظالمون} (المائدة:45) {الفاسقون} (المائدة:47)
قال شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب في فوائد سورة يوسف في قوله تعالى: {إن الحكم إلا لله}: "السابع: تقرير القاعدة الكلية أن الأمر بالتشريع من الله لا غيره" (تاريخ نجد لابن غنام ص/547)
وقال رحمه الله ردّاً على بعضهم: "أنه ذكر في {قل هو الله أحد} أنها كافية في التوحيد فوحد نفسه في الأفعال فلا خالق إلا الله، وفي الألوهية فلا يعبد إلا الله، وبالأمر والنهي فلا حكم إلا لله، فيكرر هذه الأنواع الثلاثة ثم يكفر بها كلها" (تاريخ نجد لابن غنام ص/547)
وقال في فوائد آية سورة الكهف: {ولا يشرك في حكمه أحداً}: "السادسة: كونه لا يشرك في حكمه أحداً.
السابعة: النهي عن إشراك مخلوق في حكم الله على قراءة الجزم" (تاريخ نجد لابن غنام ص/554)
قال العلامة محمد بن إبراهيم في تحكيم القوانين: "وتحكيم الشرع وحده دون كل ما سواه شقيق عبـادة الله وحده دون ما سواه".
وقال العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: "الإشراك بالله في حكمه والإشراك به في عبادته كلها بمعنى واحد لا فرق بينهما البتة، فالذي يتبع نظاماً غير نظام الله وتشريعاً غير تشريع الله ومن كان يعبد الصنم، ويسجد للوثن لا فرق بينهم البتة فهما واحد وكلاهما مشرك بالله" (أضواء البيان 7/162)
وقال أيضاً: "ويفهم من هذه الآيات كقوله تعالى: {ولا يشرك في حكمه أحداً} أن متبعي أحكام المشرعين غير ما شرعه الله أنهم مشركون بالله"..
وقال بعد أن ذكر آيات كثيرة في هذا المعنى: "وبهذه النصوص السماوية التي ذكرنا يظهر غاية الظهور أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله صلى الله عليه وسلم أنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته، وأعماه عن نور الوحي مثلهم" (أضواء البيان ص/84 من سورة الكهف)
وقال شيخنا عبدالعزيز بن باز حفظه الله:
"وكل دولة لا تحكم بشرع الله ولا تنصاع لحكم الله فهي دولةٌ جاهليةٌ، كافرةٌ، ظالمةٌ، فاسدةٌ بنص هذه الآيات المحكمات، يجب على أهل الإسلام بغضها، ومعاداتها في الله وتحرم عليهم مودتُها، وموالاتُها حتى تؤمن بالله وحده، وتحكِّم شريعته" (نقد القومية العربية 50/51)
وقال أيضاً: "وإن من أقبح السيئات وأعظم المنكرات التحاكم إلى غير شريعة الله من القوانين الوضعية والنظم البشرية وعادات الأسلاف والأجداد، وأحكام الكهنة والسحرة، والمنجمين التي وقع فيها كثير من الناس اليوم، وارتضاها بدلاً من شريعة الله التي بعث بها رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم ولا ريب أن ذلك من أعظم النفاق، ومن أكبر شعائر الكفر والظلم والفسوق، وأحكام الجاهلية التي أبطلها القرآن الكريم وحذر عنها الرسـول صلى الله عليه وسلم" (فتاوى الشيخ عبدالعزيز بن باز 2/142)
وقال أيضاً: "وهذا تحذيرٌ شديدٌ من الله سبحانه لجميع العباد من الإعراض عن كتابه، وسنه رسوله صلى الله عليه وسلم، والتحاكم إلى غيرهما، وحكمٌ صريحٌ من الرب عز وجل في أن من حكم بغير شريعته بأنه كافر، وظالم، وفاسق، ومتخلق بأخلاق المنافقين وأهل الجاهلية" (فتاوى الشيخ عبدالعزيز بن باز 2/142)
قال العلامة سليمان بن سحمان رحمه الله في تعريف الطاغوت، وتفسير قوله تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسـولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} (النحل:36): "وأما حقيقته والمراد به فقد تعددت عبارات السلف عنه وأحسن ما قيل فيه كلام ابن القيم رحمه الله حيث قال: الطاغوت ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله أو يعبدونه من دون الله ويتبعونه في غير بصيرة من الله أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم ممن أعرض عن عبادة الله إلى عبادة الطاغوت ومن طاعته ومتابعة رسوله إلى طاعة الطاغوت ومتابعته. انتهى
وحاصله أن الطاغوت ثلاثـة أنواع طاغوت حكم، وطاغوت عبادة، وطاغوت طاعة ومتابعة.. والمقصود في هذه الورقة هو طاغوت الحكم فإن كثيراً من الطوائف المنتسبين إلى الإسلام قد صاروا يتحاكمون إلى عادات آبائهم".
ثم قال: "وهذا هو الطاغوت بعينه الذي أمر الله باجتنابه" (الدرر السنية 8/272)
وقال الشيخ صالح الفوزان في كتاب التوحيد: "قال الله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} في هذه الآية الكريمة أن الحكم بغير ما أنزل الله كفر، وهذا الكفر تارة يكون كفراً أكبر ينقل عن الملة وتارة يكون كفراً أصغر لا يخرج من الملة، وذلك بحسب حال الحاكم فإنه إن اعتقد أن الحكم بما أنزل الله غير واجب وأنه مخير فيه أو استهان بحكم الله واعتقد أن غيره من القوانين والنظم الوضعية أحسن منه وأنه لا يصلح لهذا الزمان وأراد بالحكم بغير ما أنزل الله استرضاء الكفار والمنافقين فهذا كفر أكبر، وإن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله وعلمه في هذه الواقعة وعدل عنه مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة فهذا عاص ويسمى كافراً كفراً أصغر، وإن جهل حكم الله فيها مع بذل جهده واستفراغ وسعه في معرفة الحكم وأخطأه فهذا مخطئ له أجر على اجتهاده وخطؤه مغفور. وهذا في الحكم في القضية الخاصة، وأما الحكم في القضايا العامة فإنه يختلف.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فإن الحاكم إذا كان ديناً لكنه حكم بغير علم كان من أهل النار. وإن كان عالماً لكنه حكم بخلاف الحق الذي يعلمه كان من أهل النار، وإذا حكم بلا عدل ولا علم أولى أن يكون من أهل النار، وهذا إذا حكم في قضية لشخص، وأما إذا حكم حكماً عاماً في دين المسلمين فجعل الحق باطلاً والباطل حقاً والسنة بدعة، والبدعة سنة، والمعروف منكراً والمنكر معروفاً، ونهى عما أمر الله به ورسوله، وأمر بما نهى عنه ورسوله فذه لون آخر يحكـم فيه رب العالمين، وإله المرسلين مالك يوم الدين الذي له الحمد في الأولى والآخرة: {له الحكم وإليه ترجعون}.. {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً}".
وقال أيضاً: "ولا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله فهو كافر فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلاً من غير اتباع لما أنزل الله فهو كافر فإنه ما من أمة إلا وهي تأمر بالحكم بالعدل، وقد يكون العدل في دينها ما يراه أكابرهم، بل كثير من المنتسبين إلى الإسلام يحكمون بعاداتهم التي لم ينزلها الله كسواليف البادية (أي عادات من سلفهم) وكانوا الأمراء المطاعين ويرون أن هذا هو الذي ينبغي الحكم به دون الكتاب والسنة وهذا هو الكفر، فإن كثيراً من الناس أسلموا ولكن لا يحكمون إلا بالعادات الجارية التي يأمر بها المطاعون. فهؤلاء إذا عرفوا أنه لا يجوز لهم الحكم إلا بما أنزل الله فلم يلتزموا ذلك بل استحلوا أن يحكموا بخلاف ما أنزل الله منهم كفار" انتهى
وقال الشيخ محمد بن ابراهيم: "وأما الذي قيل فيه أنه كفر دون كفر إذا حاكم إلى غير الله مع اعتقاد أنه عاص وأن حكم الله هو الحق فهذا الذي يصدر منه المرة ونحوها، أما الذي جعل قوانين بترتيب وتخضيع فهذا كفر وإن قالوا أخطأنا وحكم الشرع أعدل. فهذا كفر ناقل عن الملة".
ففـرق رحمه الله بين الحكم الجزئي الذي لا يتكرر وبين الحكم العام الذي هو المرجع في جميع الأحكام أو غالبها وقرر أن هذا الكفر ناقل عن الملة مطلقاً وذلك لأن من نحى الشريعة الإسلامية وجعل القانون الوضعي بديلاً منها فهذا دليل على أنه يرى القانون أحسن وأصلح من الشريعة وهذا لا شك أنه كفر أكبر يخرج من الملة ويناقض التوحيد (قاله الشيخ صالح الفوزان في كتاب التوحيد ص/48-50)
* توحيد الأسماء والصفات:
وتوحيده في أسمائه وصفاته هو إفراده سبحانه وتعالى بما سمى به نفسه أو وصف نفسه به في كتابه أو على لسان رسوله بإثبات ما أثبته ونفي ما نفاه من غير تحريف ولا تعطيل ومن غيـر تكييف ولا تمثيل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فالأصل في هذا الباب أن يوصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفته به رسله: نفياً وإثباتاً، فيثبت لله ما أثبته لنفسه، وينفى عنه ما نفاه عن نفسه.
وقد علـم أن طريقة سلف الأمة وأئمتها إثبات ما أثبته من الصفات من غير تكييف، ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل.
وكذلك ينفون عنه ما نقاه عن نفسه، مع إثبات ما أثبته من الصفات من غير إلحاد، لا في أسمائه ولا في آياته، فإن الله تعالى ذم الذين يلحدون في أسمائه وآياته كما قال تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون} (الأعراف:180).. وقال تعالى: {إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة اعملوا ما شئتم} الآية (فصلت:40)..
فطريقتهم تتضمن إثبـات الأسماء والصفات، مع نفي مماثلة المخلوقات إثباتاً بلا تشبيه، وتنزيهاً بلا تعطيل كما قال تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} (الشورى:11)
ففي قوله تعالى: {ليس كمثله شيء} رد للتشبيه والتمثيل.. وقوله: {وهو السميع البصير} رد للإلحاد والتعطيل.
والله سبحانه: بعث رسله بإثبات مفصل، ونفي مجمل، فأثبتوا لله الصفات على وجه التفصيل ونفوا عنه ما لا يصلح له من التشبيه والتمثيل كما قال تعالى: {فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سمياً} (مريم:65)
قال أهل اللغة: هل تعلم له سمياً أي نظيراً يستحق مثل اسمه، ويقال: مسامياً يساميه، وهذا معنى ما يروى عن ابن عباس هل تعلـم له سمياً مثيلاً أو شبيهاً. وقال تعالى: {لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد} (الإخلاص:3-4)
وأما الإثبات المفصل: فإنه ذكـر من أسمائه وصفاته ما أنزله في محكم آياته كقوله: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} (البقرة:255)، وقوله: {قل هو الله أحد* الله الصمد..} السورة.. (الإخلاص:1-4) وقوله: {وهو العزيز الحكيم} (الصف:1)،{وهو الغفور الرحيم} (يونس:107) {وهو الغفور الودود ذو العرش المجيد فعال لما يريد} (البروج:15).. {هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم* هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير} (الحديد:3-4)
وقوله: {ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم} (محمد:28) وقوله: {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين} (المائدة:54).. وقوله: {رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه} (البينة:.. وقوله: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً} (النساء:93).. وقوله: {إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون} (غافر:10).. وقوله: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة} (البقرة:210).. وقوله: {ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين} (فصلت:11)
وقوله: {وكلم الله موسى تكليماً} (النساء:164).. وقوله: {وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجياً} (مريم:52).. وقوله: {ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون} (القصص:62).. وقوله: {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} (يس:82)
وقوله: {هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم* هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون* هو الله الخـالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم} (الحشر:22-24)
إلى أمثال هـذه الآيات، والأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في أسماء الرب تعالى وصفاتـه، فإن في ذلك من إثبات ذاته وصفاته على وجه التفصيل، وإثبات وحدانيته بنفي المثيل، ما هدى الله به عباده إلى سواء السبيل فهذه طريقة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
ولهذا سمى الله نفسه بأسماء، وسمى صفاته بأسماء، وكانت تلك الأسماء مختصة به، إذا أضيفت إليه لا يشركه فيها غيره، وسمى بعض مخلوقاته بأسماء مختصة بهم، مضافة إليهم، توافق تلك الأسماء إذا قطعت عن الإضافة والتخصيص، ولم يلزم من اتفاق الاسمين، وتماثل مسماهما واتحاده عند الإطلاق والتجريد عن الإضافة، والتخصيص: اتفاقهما، ولا تماثل المسمى عند الإضافة والتخصيص، فضلاً عن أن يتحد مسماهما عند الإضافة والتخصيص.
فقد سمي الله نفسه حياً، فقال: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} (البقرة:255) وسمي بعض عباده حياً، فقال: {يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي} (الروم:19) وليس هـذا الحي مثل هذا الحي، لأن قوله الحي اسم لله مختص به..
وقوله: {يخرج الحي من الميت} اسم للحي المخلوق مختص به، وإنما يتفقان إذا أطلقا وجردا عن التخصيص، ولكن ليس للمطلق مسمى موجود في الخارج، ولكن العقل يفهم من المطلق قدراً مشتركاً بين المسلمين، وعند الاختصاص يقيد ذلك بما يتميز به الخالق عن المخلوق، والمخلوق عن الخالق.
ولا بد من هذا في جميع أسماء الله وصفاته، يفهم منها ما دل عليه الاسم بالمواطأة والاتفاق، وما دل عليه بالإضافة والاختصاص: المانعة من مشاركة المخلوق للخالق في شيء من خصائصه سبحانه وتعالى.
* علوُّ الله على خلقه واستواؤه على عرشه:
ومن صفاته عز وجل علوه على خلقه واستواؤه على عرشه فله سبحانه وتعالى العلو المطلق علو الذات، وعلو القدر، وعلو القهر، وهو من صفاته الذاتية التي تثبت بالعقل والنقل والفطرة..
* قال العلامة ابن أبي العـز الحنفي: "وعلوه سبحانه وتعالى كما هو ثابت بالسمع، ثابت بالعقل والفطرة" (شرح الطحاوية ص/325)
* وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "القول بأن الله تعـالى فوق العالم معلوم بالاضطرار من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة.. والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة والتابعين متواترة بذلك" (درء التعارض 7/26)
* وقال أيضاً: "وإذا قيل (العلو) فإنه يتناول ما فوق المخلوقات كلها، فما فوقها كلها هو في السماء، ولا يقتضي هذا أن يكون هناك ظرف وجودي يحيط به إذ ليس فوق العالم شيء موجود إلا الله " (التدمرية ص/88)
* وقد أجمع سلف الأمة وأئمة السنة على إثبات صفة الاستواء على العرش لله عز وجل استـواءً يليق بجلاله وكماله بلا كيف كما أخبر سبحانه عن نفسه في سبع آيات: {الرحمن على العرش استوى} (طه:5).. {ثم استوى على العرش الرحمن فأسأل به خبيراً} (الفرقان:59).. {إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش} (الأعراف:54)..
* قال شيخ الإسلام أبو إسماعيل الصابوني الشافعي: "وعلمـاء الأمة وأعيان الأئمة من السلف رحمهم الله لم يختلفوا في أن الله تعالى على عرشه، وعرشه فوق سماواته يثبتون له من ذلك ما أثبته الله تعالى، ويؤمنون به ويصدقون الرب جل جلاله في خبره، ويطلقون ما أطلقه سبحانه وتعـالى من استوائه على العرش، ويمرونه على ظاهره، ويكلون علمه إلى الله" (عقيدة السلف ص/15)
* وقال القرطبي في تفسير الجامع لأحكام القرآن: "وقد كان السلف الأول رضي الله عنهم لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه وأخبرت رسله، ولم ينكر أحـد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة وخص العرش بذلك لأنه أعظم مخلوقاته، وإنما جهلوا كيفية الاستواء فإنه لا تعلم حقيقته، قال مالك رحمه الله: الاستواء معلوم -يعني في اللغة- والكيف مجهول، والسؤال عن هذا بدعة، وكذا قالت أم سلمة رضي الله عنها" (الجامع لأحكام القرآن 7/219)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله: الإيمان بما أخبر الله به في كتابه، وتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجمع عليه سلف الأمة، من أنه سبحانه فـوق سمواته على عرشه، عليّ على خلقه، وهو معهم أينما كانوا يعلم ما هم عاملون كما جمع بين ذلك في قوله تعالي: {هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير} (الحديد:4)..
وليس معنى قوله: {وهو معكم} أنه مختلط بالخلق، فإن هذا لا توجبه اللغة وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة، وخلاف ما فطر الله عليه الخلق" (الفتاوى 3/177)
وكل ما سبق ذكره من أنواع التوحيد في الربوبية، والإلهية، والأسماء، والصفات، والحاكمية داخل في شهادة العبد {أن لا إله إلا الله}..
* تحقيق التوحيد بإخلاص الدين لله:
"ومن تحقيق التوحيد: أن يعلم أن الله تعالى أثبت له حقاً لا يشركه فيه مخلوق كالعبادة والتوكـل، والخوف، والخشية، والتقوى كما قال تعالى: {لا تجعل مع الله إلهاً آخر فتقعد مذمومـاً مخذولاً} (الإسراء:22).. وقال تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصاً له الدين} (الزمر:2).. وقال تعالى: {قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين} (الزمر:11).. وقال تعالى: {قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون} (الزمر:64) إلى قوله: {الشاكرين}..
وكل من الرسل يقول لقومه: {اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} (هود:50)..
وقد قال في التوكل: {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين} (المائدة:23).. {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} (التوبة:51)، وقال: {قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون} (الزمر:38).. وقال تعالى: {ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون} (التوبة:59)
فقال في الاتيان: {ما آتاهم الله ورسوله}.. وقال في التوكل: {وقالوا حسبنا الله} ولم يقل: ورسوله؛ لأن الإتيان هو الإعطاء الشرعي، وذلك يتضمن الإباحة والإحلال الذي بلغه الرسول، فالحلال ما أحله، والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه. قال تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} (الحشر:7)..
وأما الحسب فهو الكافي، والله وحـده كاف عبده كما قال تعالى: {الذين قال لهم الناس إن الناس قـد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} (آل عمران:173) فهو وحده حسبهم كلهم، وقال تعالى: {يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} (الأنفال:64) أي حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين هو الله، فهو كافيكم كلكم.
وقال في الخوف والخشية والتقوى: {ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون} (النور:52) فأثبت الطاعة لله والرسول، وأثبت الخشية والتقوى لله وحده، كما قال نوح عليه السلام: {إني لكم نذير مبين ان اعبدوا الله واتقوه وأطيعون} فجعل العبادة والتقوى لله وحده، وجعل الطاعة للرسول، فإنه من يطع الرسول فقد أطاع الله.
وقد قال تعالى: {فلا تخشوا الناس واخشون} (المائدة:44).. وقال تعالى: {فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين} (آل عمران:175).. وقال الخليل عليه السلام: {وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطاناً فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون* الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} (الأنعام:81-82)
وفي الصحيحين عن ابن مسعود أنه قال: لما نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين، فقالوا: يا رسول الله أينا لم يظلم نفسه؟ قال صلى الله عليه وسلم: [إنما هو الشرك ألم تسمعوا ما قال لقمان لابنه وهو يعظه: {إن الشرك لظلم عظيم}] (متفق عليه)
ومن هذا الباب أن رجلاً خطب عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "من يطع الله ورسوله فقد رشـد، ومن يعصهما فقد غوى" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [بئس الخطيب أنت ، قل ومن يعص الله ورسوله فقد غوى] (رواه مسلم)
وقال: [ولا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد] (رواه أحمد وابن ماجة)
ففي الطاعة: قرن اسم الرسول باسمه بحرف الواو، وفي المشيئة: أمر أن يجعل ذلك بحرف ثم، وذاك لأن طاعة الرسول طاعة لله، فمن أطاع الرسول فقد أطاع الله، وطاعة الله طاعة الرسول، بخلاف المشيئة فليست مشيئة أحد من العباد مشيئة لله. ولا مشيئة الله مستلزمة لمشيئة العباد، بل ما شاء الله كان، وما لم يشأ الناس، وما شاء الناس لم يكن إن لم يشأ الله. (الفتاوى 3/107-109)
"وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحقق التوحيد، ويعلمه أمته، حتى قال له رجل: ما شاء الله وشئت فقال: [أجعلتني لله نداً؟! بل ما شاء الله وحده]، وقال: [لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد، ولكن ما شاء الله ثم شاء محمد] ونهى عن الحلف بغير الله فقال: [من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت] (متفق عليه)
وقال: [من حلف بغير الله فقد أشرك] (رواه أبو داود والترمذي)
وقال: [لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا عبدالله ورسوله] (رواه البخاري)
ولهذا اتفق العلماء على أنه ليس لأحد أن يحلف بمخلوق كالكعبة ونحوها.
ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن السجود له، ولما سجد بعض أصحابه نهاه عن ذلك وقال: [لا يصلح السجود إلا لله]، وقال: [لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها] (رواه أحمد والترمذي والحاكم)
وقال لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: [أرأيت لو مررت بقبري أكنت تسجد له؟] قال: لا. قال: [فلا تفعلوا] (رواه أبو داود وصححه الألباني في صحيحه)
ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد، فقال في مرض موته: [لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبـور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا] (متفق عليه) قالت عائشة رضي الله عنها: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجداً.
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال قبل أن يموت بخمـس: [إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، فلا تتخذوا بيتي عيداً ولا بيوتكم قبوراً، وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني]، ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أنه لا يشرع بناء المساجـد على القبور، ولا تشرع الصلاة عند القبور، بل كثير من العلماء يقول الصلاة عندها باطلة.
وذلك أن من أكبر أسباب عبادة الأوثان كان التعظيم للقبور بالعبـادة،ونحوها، قال الله تعالى في كتابه: {وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً، ولا يغوث ويعوق ونسراً} (نوح:23) قال طائفة من السلف: كانت هذه أسماء قوم صالحين، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم وعبدوها.
ولهذا اتفق العلماء على أن من سلم على النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره أنه لا يتمسح بحجرته ولا يقبلها، لأن التقبيل والاستلام إنما يكون لأركان بيت الله الحرام، فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق.
وكذلك الطـواف والصلاة والاجتماع للعبادات إنما تقصد في بيوت الله، وهي المساجد التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، فلا تقصد بيوت المخلوقين فتتخذ عيداً، كما قال صلى الله عليه وسلـم: [لا تتخذوا بيتي عيداً] كل هذا لتحقيق التوحيد الذي هو أصل الدين ورأسه الذي لا يقبل الله عمـلاً إلا به، ويغفر لصاحبه ولا يغفر لمن تركه، وكما قال تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، ومن يشرك بالله فقد افترى إثماً عظيماً} (النساء:48)
ولهـذا كانت كلمة التوحيد أفضل الكلام وأعظمه، فأعظم آية في القرآن أية الكرسي: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم} (البقرة:255).. وقال صلى الله عليه وسلـم: [من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة] (رواه أحمد وأبو داود، والحاكم)
والإله: الذي يألهه القلب عبادة له، واستعانة، ورجاء له، وخشية، وإجلالاً، وإكراماً" (الفتاوى 3/397-400)
فيجب صرف العبادة كلها لله وحده لا شريك له من صلاة وذبح، ووفاء نذر، وصوم، وحج، وطواف، ودعاء، وغير ذلك من العبادات. كما قال تعالى: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين} (الأنعام:162).. وقال: {ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون} (المؤمنون:117).. وقال: {وقال ربكم ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} (غافر:60)..
فسمى الله الدعاء عبادة، فمن دعا غير الله عز وجل فيما لا يقدر عليه إلا الله فقد أشرك بالله: {ومن يشرك بالله فقد حرم عليه الجنة} (المائدة:72).. {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} ..
هذا ولا بد في عبادة الله عز وجل من شرطين لقبولها:
أحدهما: إخلاص الدين له.
الثاني: موافقة أمره الذي بعث به رسله، ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في دعائه: (اللهم اجعل عملي كله صالحاً، واجعله لوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحد فيه شيئاً)، وقال الفضيل بن عياض في قوله تعالى: {ليبلوكم أيكم أحسن عملاً} قال: أخلصه وأصوبه، قالوا يا أبا علي: ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إذا كان العمل خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة.
ولهذا ذم الله المشركين في القرآن على اتباع ما شرع لهم شركاؤهم من الدين مما لم يأذن به الله من عبادة غيره، وفعل ما لم يشرعه من الدين، كما قال تعالى: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} (الشورى:21) كما ذمهم على أنهم حرموا ما لم يحرمه الله.. والدين الحق أنه لا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه. (الفتاوى 3/124)
* إجماع سلف الأمة على إثبات صفات الله سبحانه وتعالى من غير تحريف أو تمثيل أو تشبيه:
وقد أجمع سلف الأمة وأهل السنة على إثبات ما أثبته الله لنفسه ونفي ما نفاه عن نفسه.
قال حافظ الشرق الخطيب البغدادي في الصفات: "ما روى منها في السنن الصحاح، مذهب السلف رضوان الله عليهم إثباتها وإجراؤها على ظواهرها، ونفي الكيفية والتشبيه عنها.
وقد نفاها قوم ; فأبطلوا ما أثبته الله سبحانه، وحققها قوم من المثبتين، فخرجوا في ذلك إلى ضرب من التشبيه والتكييف.
والقصد إنما هو سلوك الطريقة المتوسطة بين الأمرين، ودين الله بين الغالي والمقصر عنه، والأصل في هذا أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، ويحتذى في ذلك حذوه ومثاله.
فإذا كان معلوماً أن إثبات رب العالمين عز وجل إنما هو إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجود، لا إثبات تحديد وتكييف.
فإذا قلنا: لله تعالى يد وسمع وبصر، فإنما هي صفات أثبتها الله تعالى لنفسه، ولا نقول: إن معنى اليد: القدرة، ولا أن معنى السمع والبصر: العلم، ولا نقول: إنها جوارح، ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار التي هي جوارح.
ونقول: إنما وجب إثباتها لأن التوقيف ورد بها ووجب نفي التشبيه عنها لقوله تبارك وتعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} (الشورى:11). وقوله عز وجل: {ولم يكن له كفواً أحد} (الإخلاص:4)" (الكلام على الصفات ص/20-23)
وقال حافظ المغرب ابن عبدالبر في التمهيد: "أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز إلا أنهم لا يكيفون شيئاً من ذلك، ولا يحدون فيه صفة محصورة، وأما أهل البدع، والجهمية، والمعتزلة كلها والخوارج، فكلهم ينكرها ولا يحمل شيئاً منها على الحقيقة، ويزعمون أن من أقر بها مشبه، وهم عند من أثبتها نافون للمعبود، والحـق فيما قاله القائلون به بما نطق كتاب الله وسنة رسوله وهم أئمة الجماعة والحمد لله" (التمهيد 7/145)
وقال الإمام الفقيه محمد بن الحسن الشيباني -صاحب أبي حنيفة-: "اتفق الفقهاء كلهم من الشرق إلى الغرب على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاءت بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب عز وجل، من غير تفسير ولا تشبيه، فمن فسر اليوم شيئاً من ذلك فقد خرج مما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإنهم لم يفسروا، ولكن أفتوا بما كـان في الكتاب والسنة ثم سكتوا، فمن قال بقول جهم فقد فارق الجماعة لأنه وصفه بصفة لا شيء" (اللالكائي 3/342)
والمقصود بقوله (من غير تفسير) أي يخالف ظاهرها اللائق بالله تعالى، وأما توضيح المعنى فقد تواتر عن الصحابة ومن أخذ عنهم العلم من التابعين توضيح معاني القرآن بلا تفريق بين آيات الصفات، وغيرها كما هو منثور في كتب التفسير بالمأثور.
* القرآن الكريم كلام الله عز وجل حقيقة:
ومن الصفات العظيمة الكريمة لله عز وجل صفة الكلام كما أخبـر عن نفسه: {وكلم الله موسى تكليماً} (النساء:164).. {ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه} (الأعراف:143).. ولم يزل سبحانه متصفاً بها على الوجه اللائق بكماله وجلاله ومن كلامه القرآن الكريم..
قال ابن قدامة المقدسي: "ومن كلام الله سبحانه القرآن الكريم، وهو كتاب الله المبين، وحبله المتين، وصراطه المستقيم، وتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين، بلسان عربي مبين، منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وهو سور محكمات،وآيات بينات، وحروف وكلمات، من قرأه فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات، له أول وآخر، وأجزاء وأبعاض، متلو بالألسنة، محفوظ في الصدور، مسموع بالآذان، مكتوب في المصاحف، فيه محكم ومتشابه، وناسخ ومنسوخ، وخاص وعام، وأمر ونهي {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد} (فصلت:42).. وقوله تعالى: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً} (الإسراء:88)" (لمعة الاعتقاد/18-19)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "مذهب سلف الأمة وأهل السنة أن القرآن كلام الله، منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود، هكذا قال غير واحد من السلف، روى عن سفيان عن عمرو بن دينار -وكان من التابعين الأعيان- قال: ما زلت أسمع الناس يقولون ذلك.
والقرآن الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم هو هذا القرآن الذي يقرؤه المسلمون، ويكتبونه في مصاحفهم، وهو كلام الله لا كلام غيره، وإن تلاه العباد وبلغوه بحركاتهم وأصواتهم، فإن الكلام لمن قاله مبتدئاً لا لمن قاله مبلغاً مؤدياً، قال الله تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه} (التوبة:6)، وهذا القرآن في المصاحف كما قال تعالى: {بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ} (البروج:21-22)، وقال تعالى: {يتلو صحفاً مطهرة* فيها كتب قيمة} (البينة:2-3)، وقال: {إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون} (الواقعة:77-87)..
والقرآن كلام الله بحروفه ونظمه ومعانيه، كل ذلك يدخل في القرآن وفي كلام الله، وإعراب الحروف هو من تمام الحروف" (الفتاوى 3/401)
* شهادة أن محمداً رسول الله:
ولا يكفي العبد أن يشهد أن لا إله إلا الله، ولا يكون بها مسلماً حتى يقرنها بشهادة (أن محمداً رسول الله)..
وأن كل ما جاء به حق وصدق وأنه يجب طاعته فيما أمر وتصديقه في كل ما أخبر وأنه {رسول الله وخاتم النبيين} (الأحزاب:40).. فلا نبي بعده صلى الله عليه وسلم، وأنه رسول الله إلى الخلق كافة كما في قوله تعالى: {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً} (الأعراف:158).. وأن دينه آخر الأديان، ولا يسع أحداً ترك اتباعه.
وهاتان الشهادتان همـا أصل الإسلام وأول أركانه كما في الحديث الصحيح: [بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقـام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً] (متفق عليه) من لم يأت بهما فهو كافر بإجماع أهل الإسلام.
* مقتضى الشهادتين طاعة الله ورسوله:
"وإذا كانت الشهادتان هي أصل الدين، وفروعه وسائر دعائمه، وشعبه داخلة فيهما، فالعبادة متعلقة بطاعة الله ورسوله، كما قال تعالى: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين} (النساء:69)..
وقال في الآية المشروعة في خطبة الحاجة: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً* يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً} (الأحزاب:70-71)
وفي الخطبة: {من يطـع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فقد غوى} (رواه مسلم)، وقال تعالى: {من يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون} (النور:52).. وقال تعالى: {ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم* ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين} (النساء:13-14)
وكذلك علق الأمـور بمحبة الله ورسوله كقوله تعالى: {أحب إليكم من الله ورسوله} (التوبة:24) وبرضا الله ورسوله كقوله: {والله ورسوله أحق أن يرضوه} (التوبة:62) وتحكيم الله ورسوله كقوله: {وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم} (النور:48).. وقوله: {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول} (النساء:61) وأمر الله تعالى عند التنازع بالرد إلى الله والرسول، فقال: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} وجعل المغانم لله والرسـول، فقال: {يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول} (الأنفال:1) ونظائر هذا متعددة". (الفتاوى 3/341)
أصول منهج أهل السنة والجماعة
في الاعتقاد والعمل
فضيلة الشيخ/ عبد الرحمن بن عبد الخالق
--------------------------------------------------------------------------------
الحمد لله نحمـده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} (آل عمران:102).. {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجـها، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً} (النساء:1).. {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً} (الأحزاب:70-71)..
وبعد،،،
فهذه بحمد الله وتوفيقه الأصول، والقضايا الكلية لدين الإسلام الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم، وخلاصة اعتقاد أهل السنة والجماعة في قضايا الدين الكبرى وخاصة وفي المسائل التي وقع عليها الخلاف في الأمة..
وقد جمعنا في هذه الأصول والقواعد خلاصة معتقد أهل العلم من أهل السنة والجماعة، وسلفنا الصالح المشهود لهم بالخير.
والهدف والغاية بحـول الله وتوفيقه أن يكون هذا المجموع منهجاً دراسياً لطلاب العلم في العالم الإسلامي أجمع، وكتاباً يدرسه كل من رام جمع أصول معتقد أهل السنة والجماعة، والسير على مناهجهم في الدين، والالتزام بصراط الله المستقيم.
وأني لأشكر أخواني طلاب العلم الذين ساعدوني في جمع وإعداد المادة العلمية لهذا الكتاب سائلاً الله أن يجزيهم أحسن الجزاء.
وختاماً أسأل الله بأسمائه الحسنى وبصفاته العليا قبول هذا العمل، وأن يجعله خالصاً لوجهه
الكريم، وأن يكتب له القبول، وينفع به المسلمين في كل مكان.
وتم الفراغ منه في
19 رمضان المبارك لعام 1417هـ
وكتبه
عبدالرحمن بن عبدالخالق
**********
الباب الأول
مجمل الاعتقاد
الإسلام هو الدين الحق الذي بعث الله به رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل، وسيد المرسلين، وهو دين الله إلى الناس كافة. قال تعالى: {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً} (الأعراف:158).. وقال تعالى: {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً، ولكن أكثر الناس لا يعلمون} (سبأ:28)..
ودين الإسـلام الذي بعث به رسولنا صلى الله عليه وسلم هو دين الله الذي ارتضاه لكافة عباده، وأرسل جميع رسله وأنبياءه بدءاً من آدم عليه السلام وختاماً بمحمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام} (آل عمران:19)..
وقال تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} (آل عمران:85)..
وقال تعالى: {شـرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك، وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء، ويهدي إليه من ينيب} (الشورى:13)
ورسل الله جميعاً وأنبياؤه دعوا إلى دين الإسلام وهو توحيد الله وعبادته وحده، والاستسلام لأمره، والإيمان بالغيب الذي أخبرهم الله به، وإن اختلفت شرائعهم العملية، قال تعالى: {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون} (الأنبياء:92).. وقال: {وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون} (المؤمنون:52)
وقال صلى الله عليه وسلم: [الأنبياء إخوة من علات، وأمهاتهم شتى، ودينهم واحد]. (رواه مسلم) وقال جل وعلا: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} (النحل:36)
وقال: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} (الأنبياء:25)
وقد خلق الله الخلق كلهم لعبادته. الملائكة والإنس والجن. والسماوات والأرض، وكل العالمين: فالله سبحانه وتعالى، هو رب العالمين، والعالمون هم كل ما سوى الله جل وعلا.
وقد شاء الله سبحانه وتعالى أن يكون من عباده من الجن والإنس مؤمن وكافر. قال تعالى: {هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير} (التغابن:2)
وقال تعالى: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين} (هود:118-119)
والإسـلام الذي بُعث به رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم هو دين شامل كامل، وصبغة عامـة، تضبط أعمال الإنسان جميعاً، ويدخل المسلم في صراط مستقيم قد حددت جميع معالمه، وفصلت جميع أحكامه.. بدءاً من طهارة القلب بالإيمان بالله وتوحيده ونهاية بالطهارة الحسية من جميع النجاسات. قال تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} (المائدة:3).. وقال تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة.. الآية} (النحل:89)..
وأركان الإيمان التي يجب على كل مسلم الإقرار بها واعتقادها هي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره من الله تعالى.
الإيمان بالله سبحانه وتعالى
* توحيد الله عز وجل:
وأصل الأصول وأول واجب على المكلف: توحيد الله عز وجل بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (الذاريات:56)
وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: [ليكن أول ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله] (متفق عليه)
* أنواع التوحيد:
فيجب على المكلف توحيد الله عز وجل في ربوبيته، وإلهيته، وحاكميته، وأسمائه، وصفاته.
- توحيد الربوبية: فتوحيده في ربوبيته هو اعتقاد العبد الجازم وتصديقه وإقراره بأن الله هو الرب الخالق والرزاق، رب كل شيء ومليكه، له مقاليد السماوات والأرض، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، لا شريك له في ملكه، ولا ظهير معه ولا ند له ولا نظير قال تعالى: {له ملك السموات والأرض يحيي ويميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير} (التوبة:116)..
وقال تعالى: {تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير}.. (الملك:1) وقال تعالى: {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون} (الزمر:67)
- توحيد الإلهية: وتوحيده في إلهيته بإفراده بالعبادة وهي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة.
والعبودية لله تتضمن غاية الذل والخضوع مع غاية الحب والرجاء والخوف والانقياد له وهذا التوحيد هو معنى (لا إله إلا الله) أي لا معبود بحق ولا يستحق العبادة إلا الله، وهو الفارق بين أهل الإسلام وأهل الشرك والأوثان، وهو دين الرسل كافة.. قـال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبـدوا الله واجتنبوا الطاغوت} (النحل:36) {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} (الأنبياء:25)
وهذا التوحيد هو الذي جحده مشركو العرب مع إقرارهم بالله الخالق الرزاق كما قال تعالى: {ولئن سألتهم من خلـق السموات والأرض ليقولن الله} (لقمان:25).. وقال تعالى: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله} (الزخرف:87)
وحكى عنهم القرآن قولهم: {لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء} (الأنعام:148) وقال تعالى عنهم: {قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون} (يونس:31)
غير أنهم أبـوا أن يوحدوه في عبادته وإلهيته كما في قوله تعالى عنهم: {أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب} (ص:5) فأنكروا أن تكون معبوداتهم وأصنامهم معبوداً وإلهاً واحداً هو الله لا إله إلا هو، وأصروا على إشراكهم في عبادتهم لهذه الآلهة الباطلة وحجتهم هي ما حكاه القرآن عنهم: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} (الزمر:3).. {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} (يونس:18)
ولهذا أرسل الله رسله، وأنزل كتبه ليسلم الخلق له في عبادتهم وطاعتهم ولا يشركوا معه أحداً: {إن الدين عند الله الإسلام} (آل عمران:19)
"فالإسلام يتضمن الاستسلام لله وحده، فمن استسلم له ولغيره كان مشركاً، ومن لم يستسلم له كان مستكبراً عن عبادته، والمشرك به والمستكبر عن عبادته كافر، والاستسلام له وحده يتضمن عبادته وحده، وطاعته وحده.
فهـذا دين الإسلام الذي لا يقبل الله غيره، وذلك إنما يكون بأن يطاع في كل وقت، بفعل ما أمر به في ذلك الوقت" (انظر الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 3/91)
"فإقـرار المشرك بأن الله رب كل شيء، ومليكه وخالقه لا ينجيه من عذاب الله، إن لم يقترن به إقراره بأنه لا إله إلا الله، فلا يستحق العبادة أحدٌ إلا هو، وأن محمداً رسول الله، فيجب تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر..
فإنه سبحانه أخبر عن المشركين كما تقدم بأنهم أثبتوا وسائط بينهم وبين الله، يدعونهم ويتخذونهم شفعاء بدون إذن الله. قال تعالى: {ويعبدون من دون الله مالا يضرهم ولا ينفعهم، ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله، قل أتنبؤون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون} (يونس:18).. فأخبر أن هؤلاء الذين اتخذوا هؤلاء شفعاء مشركون" (انظر الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 3/1056)
* توحيد الحكم:
وتوحيد الله عز وجل في حاكميته هو اعتقاد تفرده في الحكم وأنه الحاكم شرعاً لكل ما يحبه ويرضـاه، وقدراً لكل ما أوجده وقضاه كما قال سبحانه وتعالى: {إن الحكم إلا لله} (الأنعام:57) وقال: {ولا يشرك في حكمه أحداً} (الكهف:26)، وفي قراءة {ولا تشرك في حكمه أحداً} وقال سبحانه: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} (المائدة:49)، وقال سبحانه: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} (المائدة:44).. {الظالمون} (المائدة:45) {الفاسقون} (المائدة:47)
قال شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب في فوائد سورة يوسف في قوله تعالى: {إن الحكم إلا لله}: "السابع: تقرير القاعدة الكلية أن الأمر بالتشريع من الله لا غيره" (تاريخ نجد لابن غنام ص/547)
وقال رحمه الله ردّاً على بعضهم: "أنه ذكر في {قل هو الله أحد} أنها كافية في التوحيد فوحد نفسه في الأفعال فلا خالق إلا الله، وفي الألوهية فلا يعبد إلا الله، وبالأمر والنهي فلا حكم إلا لله، فيكرر هذه الأنواع الثلاثة ثم يكفر بها كلها" (تاريخ نجد لابن غنام ص/547)
وقال في فوائد آية سورة الكهف: {ولا يشرك في حكمه أحداً}: "السادسة: كونه لا يشرك في حكمه أحداً.
السابعة: النهي عن إشراك مخلوق في حكم الله على قراءة الجزم" (تاريخ نجد لابن غنام ص/554)
قال العلامة محمد بن إبراهيم في تحكيم القوانين: "وتحكيم الشرع وحده دون كل ما سواه شقيق عبـادة الله وحده دون ما سواه".
وقال العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: "الإشراك بالله في حكمه والإشراك به في عبادته كلها بمعنى واحد لا فرق بينهما البتة، فالذي يتبع نظاماً غير نظام الله وتشريعاً غير تشريع الله ومن كان يعبد الصنم، ويسجد للوثن لا فرق بينهم البتة فهما واحد وكلاهما مشرك بالله" (أضواء البيان 7/162)
وقال أيضاً: "ويفهم من هذه الآيات كقوله تعالى: {ولا يشرك في حكمه أحداً} أن متبعي أحكام المشرعين غير ما شرعه الله أنهم مشركون بالله"..
وقال بعد أن ذكر آيات كثيرة في هذا المعنى: "وبهذه النصوص السماوية التي ذكرنا يظهر غاية الظهور أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله صلى الله عليه وسلم أنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته، وأعماه عن نور الوحي مثلهم" (أضواء البيان ص/84 من سورة الكهف)
وقال شيخنا عبدالعزيز بن باز حفظه الله:
"وكل دولة لا تحكم بشرع الله ولا تنصاع لحكم الله فهي دولةٌ جاهليةٌ، كافرةٌ، ظالمةٌ، فاسدةٌ بنص هذه الآيات المحكمات، يجب على أهل الإسلام بغضها، ومعاداتها في الله وتحرم عليهم مودتُها، وموالاتُها حتى تؤمن بالله وحده، وتحكِّم شريعته" (نقد القومية العربية 50/51)
وقال أيضاً: "وإن من أقبح السيئات وأعظم المنكرات التحاكم إلى غير شريعة الله من القوانين الوضعية والنظم البشرية وعادات الأسلاف والأجداد، وأحكام الكهنة والسحرة، والمنجمين التي وقع فيها كثير من الناس اليوم، وارتضاها بدلاً من شريعة الله التي بعث بها رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم ولا ريب أن ذلك من أعظم النفاق، ومن أكبر شعائر الكفر والظلم والفسوق، وأحكام الجاهلية التي أبطلها القرآن الكريم وحذر عنها الرسـول صلى الله عليه وسلم" (فتاوى الشيخ عبدالعزيز بن باز 2/142)
وقال أيضاً: "وهذا تحذيرٌ شديدٌ من الله سبحانه لجميع العباد من الإعراض عن كتابه، وسنه رسوله صلى الله عليه وسلم، والتحاكم إلى غيرهما، وحكمٌ صريحٌ من الرب عز وجل في أن من حكم بغير شريعته بأنه كافر، وظالم، وفاسق، ومتخلق بأخلاق المنافقين وأهل الجاهلية" (فتاوى الشيخ عبدالعزيز بن باز 2/142)
قال العلامة سليمان بن سحمان رحمه الله في تعريف الطاغوت، وتفسير قوله تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسـولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} (النحل:36): "وأما حقيقته والمراد به فقد تعددت عبارات السلف عنه وأحسن ما قيل فيه كلام ابن القيم رحمه الله حيث قال: الطاغوت ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله أو يعبدونه من دون الله ويتبعونه في غير بصيرة من الله أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم ممن أعرض عن عبادة الله إلى عبادة الطاغوت ومن طاعته ومتابعة رسوله إلى طاعة الطاغوت ومتابعته. انتهى
وحاصله أن الطاغوت ثلاثـة أنواع طاغوت حكم، وطاغوت عبادة، وطاغوت طاعة ومتابعة.. والمقصود في هذه الورقة هو طاغوت الحكم فإن كثيراً من الطوائف المنتسبين إلى الإسلام قد صاروا يتحاكمون إلى عادات آبائهم".
ثم قال: "وهذا هو الطاغوت بعينه الذي أمر الله باجتنابه" (الدرر السنية 8/272)
وقال الشيخ صالح الفوزان في كتاب التوحيد: "قال الله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} في هذه الآية الكريمة أن الحكم بغير ما أنزل الله كفر، وهذا الكفر تارة يكون كفراً أكبر ينقل عن الملة وتارة يكون كفراً أصغر لا يخرج من الملة، وذلك بحسب حال الحاكم فإنه إن اعتقد أن الحكم بما أنزل الله غير واجب وأنه مخير فيه أو استهان بحكم الله واعتقد أن غيره من القوانين والنظم الوضعية أحسن منه وأنه لا يصلح لهذا الزمان وأراد بالحكم بغير ما أنزل الله استرضاء الكفار والمنافقين فهذا كفر أكبر، وإن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله وعلمه في هذه الواقعة وعدل عنه مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة فهذا عاص ويسمى كافراً كفراً أصغر، وإن جهل حكم الله فيها مع بذل جهده واستفراغ وسعه في معرفة الحكم وأخطأه فهذا مخطئ له أجر على اجتهاده وخطؤه مغفور. وهذا في الحكم في القضية الخاصة، وأما الحكم في القضايا العامة فإنه يختلف.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فإن الحاكم إذا كان ديناً لكنه حكم بغير علم كان من أهل النار. وإن كان عالماً لكنه حكم بخلاف الحق الذي يعلمه كان من أهل النار، وإذا حكم بلا عدل ولا علم أولى أن يكون من أهل النار، وهذا إذا حكم في قضية لشخص، وأما إذا حكم حكماً عاماً في دين المسلمين فجعل الحق باطلاً والباطل حقاً والسنة بدعة، والبدعة سنة، والمعروف منكراً والمنكر معروفاً، ونهى عما أمر الله به ورسوله، وأمر بما نهى عنه ورسوله فذه لون آخر يحكـم فيه رب العالمين، وإله المرسلين مالك يوم الدين الذي له الحمد في الأولى والآخرة: {له الحكم وإليه ترجعون}.. {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً}".
وقال أيضاً: "ولا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله فهو كافر فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلاً من غير اتباع لما أنزل الله فهو كافر فإنه ما من أمة إلا وهي تأمر بالحكم بالعدل، وقد يكون العدل في دينها ما يراه أكابرهم، بل كثير من المنتسبين إلى الإسلام يحكمون بعاداتهم التي لم ينزلها الله كسواليف البادية (أي عادات من سلفهم) وكانوا الأمراء المطاعين ويرون أن هذا هو الذي ينبغي الحكم به دون الكتاب والسنة وهذا هو الكفر، فإن كثيراً من الناس أسلموا ولكن لا يحكمون إلا بالعادات الجارية التي يأمر بها المطاعون. فهؤلاء إذا عرفوا أنه لا يجوز لهم الحكم إلا بما أنزل الله فلم يلتزموا ذلك بل استحلوا أن يحكموا بخلاف ما أنزل الله منهم كفار" انتهى
وقال الشيخ محمد بن ابراهيم: "وأما الذي قيل فيه أنه كفر دون كفر إذا حاكم إلى غير الله مع اعتقاد أنه عاص وأن حكم الله هو الحق فهذا الذي يصدر منه المرة ونحوها، أما الذي جعل قوانين بترتيب وتخضيع فهذا كفر وإن قالوا أخطأنا وحكم الشرع أعدل. فهذا كفر ناقل عن الملة".
ففـرق رحمه الله بين الحكم الجزئي الذي لا يتكرر وبين الحكم العام الذي هو المرجع في جميع الأحكام أو غالبها وقرر أن هذا الكفر ناقل عن الملة مطلقاً وذلك لأن من نحى الشريعة الإسلامية وجعل القانون الوضعي بديلاً منها فهذا دليل على أنه يرى القانون أحسن وأصلح من الشريعة وهذا لا شك أنه كفر أكبر يخرج من الملة ويناقض التوحيد (قاله الشيخ صالح الفوزان في كتاب التوحيد ص/48-50)
* توحيد الأسماء والصفات:
وتوحيده في أسمائه وصفاته هو إفراده سبحانه وتعالى بما سمى به نفسه أو وصف نفسه به في كتابه أو على لسان رسوله بإثبات ما أثبته ونفي ما نفاه من غير تحريف ولا تعطيل ومن غيـر تكييف ولا تمثيل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فالأصل في هذا الباب أن يوصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفته به رسله: نفياً وإثباتاً، فيثبت لله ما أثبته لنفسه، وينفى عنه ما نفاه عن نفسه.
وقد علـم أن طريقة سلف الأمة وأئمتها إثبات ما أثبته من الصفات من غير تكييف، ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل.
وكذلك ينفون عنه ما نقاه عن نفسه، مع إثبات ما أثبته من الصفات من غير إلحاد، لا في أسمائه ولا في آياته، فإن الله تعالى ذم الذين يلحدون في أسمائه وآياته كما قال تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون} (الأعراف:180).. وقال تعالى: {إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة اعملوا ما شئتم} الآية (فصلت:40)..
فطريقتهم تتضمن إثبـات الأسماء والصفات، مع نفي مماثلة المخلوقات إثباتاً بلا تشبيه، وتنزيهاً بلا تعطيل كما قال تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} (الشورى:11)
ففي قوله تعالى: {ليس كمثله شيء} رد للتشبيه والتمثيل.. وقوله: {وهو السميع البصير} رد للإلحاد والتعطيل.
والله سبحانه: بعث رسله بإثبات مفصل، ونفي مجمل، فأثبتوا لله الصفات على وجه التفصيل ونفوا عنه ما لا يصلح له من التشبيه والتمثيل كما قال تعالى: {فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سمياً} (مريم:65)
قال أهل اللغة: هل تعلم له سمياً أي نظيراً يستحق مثل اسمه، ويقال: مسامياً يساميه، وهذا معنى ما يروى عن ابن عباس هل تعلـم له سمياً مثيلاً أو شبيهاً. وقال تعالى: {لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد} (الإخلاص:3-4)
وأما الإثبات المفصل: فإنه ذكـر من أسمائه وصفاته ما أنزله في محكم آياته كقوله: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} (البقرة:255)، وقوله: {قل هو الله أحد* الله الصمد..} السورة.. (الإخلاص:1-4) وقوله: {وهو العزيز الحكيم} (الصف:1)،{وهو الغفور الرحيم} (يونس:107) {وهو الغفور الودود ذو العرش المجيد فعال لما يريد} (البروج:15).. {هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم* هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير} (الحديد:3-4)
وقوله: {ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم} (محمد:28) وقوله: {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين} (المائدة:54).. وقوله: {رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه} (البينة:.. وقوله: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً} (النساء:93).. وقوله: {إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون} (غافر:10).. وقوله: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة} (البقرة:210).. وقوله: {ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين} (فصلت:11)
وقوله: {وكلم الله موسى تكليماً} (النساء:164).. وقوله: {وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجياً} (مريم:52).. وقوله: {ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون} (القصص:62).. وقوله: {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} (يس:82)
وقوله: {هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم* هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون* هو الله الخـالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم} (الحشر:22-24)
إلى أمثال هـذه الآيات، والأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في أسماء الرب تعالى وصفاتـه، فإن في ذلك من إثبات ذاته وصفاته على وجه التفصيل، وإثبات وحدانيته بنفي المثيل، ما هدى الله به عباده إلى سواء السبيل فهذه طريقة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
ولهذا سمى الله نفسه بأسماء، وسمى صفاته بأسماء، وكانت تلك الأسماء مختصة به، إذا أضيفت إليه لا يشركه فيها غيره، وسمى بعض مخلوقاته بأسماء مختصة بهم، مضافة إليهم، توافق تلك الأسماء إذا قطعت عن الإضافة والتخصيص، ولم يلزم من اتفاق الاسمين، وتماثل مسماهما واتحاده عند الإطلاق والتجريد عن الإضافة، والتخصيص: اتفاقهما، ولا تماثل المسمى عند الإضافة والتخصيص، فضلاً عن أن يتحد مسماهما عند الإضافة والتخصيص.
فقد سمي الله نفسه حياً، فقال: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} (البقرة:255) وسمي بعض عباده حياً، فقال: {يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي} (الروم:19) وليس هـذا الحي مثل هذا الحي، لأن قوله الحي اسم لله مختص به..
وقوله: {يخرج الحي من الميت} اسم للحي المخلوق مختص به، وإنما يتفقان إذا أطلقا وجردا عن التخصيص، ولكن ليس للمطلق مسمى موجود في الخارج، ولكن العقل يفهم من المطلق قدراً مشتركاً بين المسلمين، وعند الاختصاص يقيد ذلك بما يتميز به الخالق عن المخلوق، والمخلوق عن الخالق.
ولا بد من هذا في جميع أسماء الله وصفاته، يفهم منها ما دل عليه الاسم بالمواطأة والاتفاق، وما دل عليه بالإضافة والاختصاص: المانعة من مشاركة المخلوق للخالق في شيء من خصائصه سبحانه وتعالى.
* علوُّ الله على خلقه واستواؤه على عرشه:
ومن صفاته عز وجل علوه على خلقه واستواؤه على عرشه فله سبحانه وتعالى العلو المطلق علو الذات، وعلو القدر، وعلو القهر، وهو من صفاته الذاتية التي تثبت بالعقل والنقل والفطرة..
* قال العلامة ابن أبي العـز الحنفي: "وعلوه سبحانه وتعالى كما هو ثابت بالسمع، ثابت بالعقل والفطرة" (شرح الطحاوية ص/325)
* وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "القول بأن الله تعـالى فوق العالم معلوم بالاضطرار من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة.. والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة والتابعين متواترة بذلك" (درء التعارض 7/26)
* وقال أيضاً: "وإذا قيل (العلو) فإنه يتناول ما فوق المخلوقات كلها، فما فوقها كلها هو في السماء، ولا يقتضي هذا أن يكون هناك ظرف وجودي يحيط به إذ ليس فوق العالم شيء موجود إلا الله " (التدمرية ص/88)
* وقد أجمع سلف الأمة وأئمة السنة على إثبات صفة الاستواء على العرش لله عز وجل استـواءً يليق بجلاله وكماله بلا كيف كما أخبر سبحانه عن نفسه في سبع آيات: {الرحمن على العرش استوى} (طه:5).. {ثم استوى على العرش الرحمن فأسأل به خبيراً} (الفرقان:59).. {إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش} (الأعراف:54)..
* قال شيخ الإسلام أبو إسماعيل الصابوني الشافعي: "وعلمـاء الأمة وأعيان الأئمة من السلف رحمهم الله لم يختلفوا في أن الله تعالى على عرشه، وعرشه فوق سماواته يثبتون له من ذلك ما أثبته الله تعالى، ويؤمنون به ويصدقون الرب جل جلاله في خبره، ويطلقون ما أطلقه سبحانه وتعـالى من استوائه على العرش، ويمرونه على ظاهره، ويكلون علمه إلى الله" (عقيدة السلف ص/15)
* وقال القرطبي في تفسير الجامع لأحكام القرآن: "وقد كان السلف الأول رضي الله عنهم لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه وأخبرت رسله، ولم ينكر أحـد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة وخص العرش بذلك لأنه أعظم مخلوقاته، وإنما جهلوا كيفية الاستواء فإنه لا تعلم حقيقته، قال مالك رحمه الله: الاستواء معلوم -يعني في اللغة- والكيف مجهول، والسؤال عن هذا بدعة، وكذا قالت أم سلمة رضي الله عنها" (الجامع لأحكام القرآن 7/219)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله: الإيمان بما أخبر الله به في كتابه، وتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجمع عليه سلف الأمة، من أنه سبحانه فـوق سمواته على عرشه، عليّ على خلقه، وهو معهم أينما كانوا يعلم ما هم عاملون كما جمع بين ذلك في قوله تعالي: {هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير} (الحديد:4)..
وليس معنى قوله: {وهو معكم} أنه مختلط بالخلق، فإن هذا لا توجبه اللغة وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة، وخلاف ما فطر الله عليه الخلق" (الفتاوى 3/177)
وكل ما سبق ذكره من أنواع التوحيد في الربوبية، والإلهية، والأسماء، والصفات، والحاكمية داخل في شهادة العبد {أن لا إله إلا الله}..
* تحقيق التوحيد بإخلاص الدين لله:
"ومن تحقيق التوحيد: أن يعلم أن الله تعالى أثبت له حقاً لا يشركه فيه مخلوق كالعبادة والتوكـل، والخوف، والخشية، والتقوى كما قال تعالى: {لا تجعل مع الله إلهاً آخر فتقعد مذمومـاً مخذولاً} (الإسراء:22).. وقال تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصاً له الدين} (الزمر:2).. وقال تعالى: {قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين} (الزمر:11).. وقال تعالى: {قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون} (الزمر:64) إلى قوله: {الشاكرين}..
وكل من الرسل يقول لقومه: {اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} (هود:50)..
وقد قال في التوكل: {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين} (المائدة:23).. {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} (التوبة:51)، وقال: {قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون} (الزمر:38).. وقال تعالى: {ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون} (التوبة:59)
فقال في الاتيان: {ما آتاهم الله ورسوله}.. وقال في التوكل: {وقالوا حسبنا الله} ولم يقل: ورسوله؛ لأن الإتيان هو الإعطاء الشرعي، وذلك يتضمن الإباحة والإحلال الذي بلغه الرسول، فالحلال ما أحله، والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه. قال تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} (الحشر:7)..
وأما الحسب فهو الكافي، والله وحـده كاف عبده كما قال تعالى: {الذين قال لهم الناس إن الناس قـد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} (آل عمران:173) فهو وحده حسبهم كلهم، وقال تعالى: {يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} (الأنفال:64) أي حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين هو الله، فهو كافيكم كلكم.
وقال في الخوف والخشية والتقوى: {ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون} (النور:52) فأثبت الطاعة لله والرسول، وأثبت الخشية والتقوى لله وحده، كما قال نوح عليه السلام: {إني لكم نذير مبين ان اعبدوا الله واتقوه وأطيعون} فجعل العبادة والتقوى لله وحده، وجعل الطاعة للرسول، فإنه من يطع الرسول فقد أطاع الله.
وقد قال تعالى: {فلا تخشوا الناس واخشون} (المائدة:44).. وقال تعالى: {فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين} (آل عمران:175).. وقال الخليل عليه السلام: {وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطاناً فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون* الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} (الأنعام:81-82)
وفي الصحيحين عن ابن مسعود أنه قال: لما نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين، فقالوا: يا رسول الله أينا لم يظلم نفسه؟ قال صلى الله عليه وسلم: [إنما هو الشرك ألم تسمعوا ما قال لقمان لابنه وهو يعظه: {إن الشرك لظلم عظيم}] (متفق عليه)
ومن هذا الباب أن رجلاً خطب عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "من يطع الله ورسوله فقد رشـد، ومن يعصهما فقد غوى" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [بئس الخطيب أنت ، قل ومن يعص الله ورسوله فقد غوى] (رواه مسلم)
وقال: [ولا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد] (رواه أحمد وابن ماجة)
ففي الطاعة: قرن اسم الرسول باسمه بحرف الواو، وفي المشيئة: أمر أن يجعل ذلك بحرف ثم، وذاك لأن طاعة الرسول طاعة لله، فمن أطاع الرسول فقد أطاع الله، وطاعة الله طاعة الرسول، بخلاف المشيئة فليست مشيئة أحد من العباد مشيئة لله. ولا مشيئة الله مستلزمة لمشيئة العباد، بل ما شاء الله كان، وما لم يشأ الناس، وما شاء الناس لم يكن إن لم يشأ الله. (الفتاوى 3/107-109)
"وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحقق التوحيد، ويعلمه أمته، حتى قال له رجل: ما شاء الله وشئت فقال: [أجعلتني لله نداً؟! بل ما شاء الله وحده]، وقال: [لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد، ولكن ما شاء الله ثم شاء محمد] ونهى عن الحلف بغير الله فقال: [من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت] (متفق عليه)
وقال: [من حلف بغير الله فقد أشرك] (رواه أبو داود والترمذي)
وقال: [لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا عبدالله ورسوله] (رواه البخاري)
ولهذا اتفق العلماء على أنه ليس لأحد أن يحلف بمخلوق كالكعبة ونحوها.
ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن السجود له، ولما سجد بعض أصحابه نهاه عن ذلك وقال: [لا يصلح السجود إلا لله]، وقال: [لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها] (رواه أحمد والترمذي والحاكم)
وقال لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: [أرأيت لو مررت بقبري أكنت تسجد له؟] قال: لا. قال: [فلا تفعلوا] (رواه أبو داود وصححه الألباني في صحيحه)
ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد، فقال في مرض موته: [لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبـور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا] (متفق عليه) قالت عائشة رضي الله عنها: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجداً.
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال قبل أن يموت بخمـس: [إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، فلا تتخذوا بيتي عيداً ولا بيوتكم قبوراً، وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني]، ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أنه لا يشرع بناء المساجـد على القبور، ولا تشرع الصلاة عند القبور، بل كثير من العلماء يقول الصلاة عندها باطلة.
وذلك أن من أكبر أسباب عبادة الأوثان كان التعظيم للقبور بالعبـادة،ونحوها، قال الله تعالى في كتابه: {وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً، ولا يغوث ويعوق ونسراً} (نوح:23) قال طائفة من السلف: كانت هذه أسماء قوم صالحين، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم وعبدوها.
ولهذا اتفق العلماء على أن من سلم على النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره أنه لا يتمسح بحجرته ولا يقبلها، لأن التقبيل والاستلام إنما يكون لأركان بيت الله الحرام، فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق.
وكذلك الطـواف والصلاة والاجتماع للعبادات إنما تقصد في بيوت الله، وهي المساجد التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، فلا تقصد بيوت المخلوقين فتتخذ عيداً، كما قال صلى الله عليه وسلـم: [لا تتخذوا بيتي عيداً] كل هذا لتحقيق التوحيد الذي هو أصل الدين ورأسه الذي لا يقبل الله عمـلاً إلا به، ويغفر لصاحبه ولا يغفر لمن تركه، وكما قال تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، ومن يشرك بالله فقد افترى إثماً عظيماً} (النساء:48)
ولهـذا كانت كلمة التوحيد أفضل الكلام وأعظمه، فأعظم آية في القرآن أية الكرسي: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم} (البقرة:255).. وقال صلى الله عليه وسلـم: [من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة] (رواه أحمد وأبو داود، والحاكم)
والإله: الذي يألهه القلب عبادة له، واستعانة، ورجاء له، وخشية، وإجلالاً، وإكراماً" (الفتاوى 3/397-400)
فيجب صرف العبادة كلها لله وحده لا شريك له من صلاة وذبح، ووفاء نذر، وصوم، وحج، وطواف، ودعاء، وغير ذلك من العبادات. كما قال تعالى: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين} (الأنعام:162).. وقال: {ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون} (المؤمنون:117).. وقال: {وقال ربكم ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} (غافر:60)..
فسمى الله الدعاء عبادة، فمن دعا غير الله عز وجل فيما لا يقدر عليه إلا الله فقد أشرك بالله: {ومن يشرك بالله فقد حرم عليه الجنة} (المائدة:72).. {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} ..
هذا ولا بد في عبادة الله عز وجل من شرطين لقبولها:
أحدهما: إخلاص الدين له.
الثاني: موافقة أمره الذي بعث به رسله، ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في دعائه: (اللهم اجعل عملي كله صالحاً، واجعله لوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحد فيه شيئاً)، وقال الفضيل بن عياض في قوله تعالى: {ليبلوكم أيكم أحسن عملاً} قال: أخلصه وأصوبه، قالوا يا أبا علي: ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إذا كان العمل خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة.
ولهذا ذم الله المشركين في القرآن على اتباع ما شرع لهم شركاؤهم من الدين مما لم يأذن به الله من عبادة غيره، وفعل ما لم يشرعه من الدين، كما قال تعالى: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} (الشورى:21) كما ذمهم على أنهم حرموا ما لم يحرمه الله.. والدين الحق أنه لا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه. (الفتاوى 3/124)
* إجماع سلف الأمة على إثبات صفات الله سبحانه وتعالى من غير تحريف أو تمثيل أو تشبيه:
وقد أجمع سلف الأمة وأهل السنة على إثبات ما أثبته الله لنفسه ونفي ما نفاه عن نفسه.
قال حافظ الشرق الخطيب البغدادي في الصفات: "ما روى منها في السنن الصحاح، مذهب السلف رضوان الله عليهم إثباتها وإجراؤها على ظواهرها، ونفي الكيفية والتشبيه عنها.
وقد نفاها قوم ; فأبطلوا ما أثبته الله سبحانه، وحققها قوم من المثبتين، فخرجوا في ذلك إلى ضرب من التشبيه والتكييف.
والقصد إنما هو سلوك الطريقة المتوسطة بين الأمرين، ودين الله بين الغالي والمقصر عنه، والأصل في هذا أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، ويحتذى في ذلك حذوه ومثاله.
فإذا كان معلوماً أن إثبات رب العالمين عز وجل إنما هو إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجود، لا إثبات تحديد وتكييف.
فإذا قلنا: لله تعالى يد وسمع وبصر، فإنما هي صفات أثبتها الله تعالى لنفسه، ولا نقول: إن معنى اليد: القدرة، ولا أن معنى السمع والبصر: العلم، ولا نقول: إنها جوارح، ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار التي هي جوارح.
ونقول: إنما وجب إثباتها لأن التوقيف ورد بها ووجب نفي التشبيه عنها لقوله تبارك وتعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} (الشورى:11). وقوله عز وجل: {ولم يكن له كفواً أحد} (الإخلاص:4)" (الكلام على الصفات ص/20-23)
وقال حافظ المغرب ابن عبدالبر في التمهيد: "أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز إلا أنهم لا يكيفون شيئاً من ذلك، ولا يحدون فيه صفة محصورة، وأما أهل البدع، والجهمية، والمعتزلة كلها والخوارج، فكلهم ينكرها ولا يحمل شيئاً منها على الحقيقة، ويزعمون أن من أقر بها مشبه، وهم عند من أثبتها نافون للمعبود، والحـق فيما قاله القائلون به بما نطق كتاب الله وسنة رسوله وهم أئمة الجماعة والحمد لله" (التمهيد 7/145)
وقال الإمام الفقيه محمد بن الحسن الشيباني -صاحب أبي حنيفة-: "اتفق الفقهاء كلهم من الشرق إلى الغرب على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاءت بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب عز وجل، من غير تفسير ولا تشبيه، فمن فسر اليوم شيئاً من ذلك فقد خرج مما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإنهم لم يفسروا، ولكن أفتوا بما كـان في الكتاب والسنة ثم سكتوا، فمن قال بقول جهم فقد فارق الجماعة لأنه وصفه بصفة لا شيء" (اللالكائي 3/342)
والمقصود بقوله (من غير تفسير) أي يخالف ظاهرها اللائق بالله تعالى، وأما توضيح المعنى فقد تواتر عن الصحابة ومن أخذ عنهم العلم من التابعين توضيح معاني القرآن بلا تفريق بين آيات الصفات، وغيرها كما هو منثور في كتب التفسير بالمأثور.
* القرآن الكريم كلام الله عز وجل حقيقة:
ومن الصفات العظيمة الكريمة لله عز وجل صفة الكلام كما أخبـر عن نفسه: {وكلم الله موسى تكليماً} (النساء:164).. {ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه} (الأعراف:143).. ولم يزل سبحانه متصفاً بها على الوجه اللائق بكماله وجلاله ومن كلامه القرآن الكريم..
قال ابن قدامة المقدسي: "ومن كلام الله سبحانه القرآن الكريم، وهو كتاب الله المبين، وحبله المتين، وصراطه المستقيم، وتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين، بلسان عربي مبين، منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وهو سور محكمات،وآيات بينات، وحروف وكلمات، من قرأه فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات، له أول وآخر، وأجزاء وأبعاض، متلو بالألسنة، محفوظ في الصدور، مسموع بالآذان، مكتوب في المصاحف، فيه محكم ومتشابه، وناسخ ومنسوخ، وخاص وعام، وأمر ونهي {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد} (فصلت:42).. وقوله تعالى: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً} (الإسراء:88)" (لمعة الاعتقاد/18-19)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "مذهب سلف الأمة وأهل السنة أن القرآن كلام الله، منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود، هكذا قال غير واحد من السلف، روى عن سفيان عن عمرو بن دينار -وكان من التابعين الأعيان- قال: ما زلت أسمع الناس يقولون ذلك.
والقرآن الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم هو هذا القرآن الذي يقرؤه المسلمون، ويكتبونه في مصاحفهم، وهو كلام الله لا كلام غيره، وإن تلاه العباد وبلغوه بحركاتهم وأصواتهم، فإن الكلام لمن قاله مبتدئاً لا لمن قاله مبلغاً مؤدياً، قال الله تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه} (التوبة:6)، وهذا القرآن في المصاحف كما قال تعالى: {بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ} (البروج:21-22)، وقال تعالى: {يتلو صحفاً مطهرة* فيها كتب قيمة} (البينة:2-3)، وقال: {إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون} (الواقعة:77-87)..
والقرآن كلام الله بحروفه ونظمه ومعانيه، كل ذلك يدخل في القرآن وفي كلام الله، وإعراب الحروف هو من تمام الحروف" (الفتاوى 3/401)
* شهادة أن محمداً رسول الله:
ولا يكفي العبد أن يشهد أن لا إله إلا الله، ولا يكون بها مسلماً حتى يقرنها بشهادة (أن محمداً رسول الله)..
وأن كل ما جاء به حق وصدق وأنه يجب طاعته فيما أمر وتصديقه في كل ما أخبر وأنه {رسول الله وخاتم النبيين} (الأحزاب:40).. فلا نبي بعده صلى الله عليه وسلم، وأنه رسول الله إلى الخلق كافة كما في قوله تعالى: {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً} (الأعراف:158).. وأن دينه آخر الأديان، ولا يسع أحداً ترك اتباعه.
وهاتان الشهادتان همـا أصل الإسلام وأول أركانه كما في الحديث الصحيح: [بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقـام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً] (متفق عليه) من لم يأت بهما فهو كافر بإجماع أهل الإسلام.
* مقتضى الشهادتين طاعة الله ورسوله:
"وإذا كانت الشهادتان هي أصل الدين، وفروعه وسائر دعائمه، وشعبه داخلة فيهما، فالعبادة متعلقة بطاعة الله ورسوله، كما قال تعالى: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين} (النساء:69)..
وقال في الآية المشروعة في خطبة الحاجة: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً* يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً} (الأحزاب:70-71)
وفي الخطبة: {من يطـع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فقد غوى} (رواه مسلم)، وقال تعالى: {من يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون} (النور:52).. وقال تعالى: {ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم* ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين} (النساء:13-14)
وكذلك علق الأمـور بمحبة الله ورسوله كقوله تعالى: {أحب إليكم من الله ورسوله} (التوبة:24) وبرضا الله ورسوله كقوله: {والله ورسوله أحق أن يرضوه} (التوبة:62) وتحكيم الله ورسوله كقوله: {وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم} (النور:48).. وقوله: {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول} (النساء:61) وأمر الله تعالى عند التنازع بالرد إلى الله والرسول، فقال: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} وجعل المغانم لله والرسـول، فقال: {يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول} (الأنفال:1) ونظائر هذا متعددة". (الفتاوى 3/341)