الباب الأول
الكتاب والسنة عقيدة ومنهجا
أ- الكتاب والسنة عقيدة
1- بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في عصر قد انطمست فيه معالم الإيمان بالحق تبارك وتعالى:
أ- فالعرب يعتقدون في وجود الله، وأنه خالق الكون، ومنزل المطر، ولكن هذا الإله في نظرهم لا يستطيع إحياءهم بعد الموت، وليست له غاية من خلق الناس غير هذه الدنيا التي خلقهم فيها، فليس هناك قيامة ولا حساب، ثم هو إله كملوك الأرض يتوسل إليه من أجل الرزق والمطر، والنصر على الأعداء بكل حبيب عنده كالملائكة والصالحين.
ب- وأما النصارى فقد درس دينهم الحق، ولم يبق عليه إلا أفراد قلائل، وأما الكثرة الغالبة فقد اعتقدت أن عيسى هو الله أو ابن الله -تعالى ربنا عما يقولون- وجعلوا علماءهم ورهبانهم أرباباً، ينفذون أقوالهم في كل شيء، ولو خالف ذلك نصوص الكتاب عندهم، ورفعوا الصالحين منهم إلى منزلة التقديس والتأليه.
ج- وأما اليهود فقد غالوا في تشبيه الله بخلقه، ونسبوا إليه كل القبائح التي تنسب إلى البشر من الكذب والبخل، والغفلة، وعدم العلم بالمستقبل.
د- وفي بلاد فارس والهند عاشت فلسفات كثيرة، كل فلسفة تصور معبودها بصورة تروق في عقلقائلها:
- ففلسفة نادت بإلهين للعالم: إله للنور وآخر للظلمة، وزعمت صراعاً بينهما، ودعت الناس إلى مساعدة إله الخيروالنور، بإشعال النيران لينتصر الحق على الباطل.
- وفلسفة نادت بخالق للكون، يجب على الإنسان أن يجاهد نفسه بصنوف من المجاهدات حتى يفنى فيه ويلتحق به، ولا تنسخ روحه مرة ثانية بعد الموت إلى هذا العالم.
- وفلسفة نادت بالوجود الكلي لذات واحدة، تعددت وجوداتها بتعدد صفاتها، ولهج الشعراء والكتاب من الفرس بحب هذه الذات التي تتراءى لهم في كل شيء، وتظهر لهم في كل موجود.
هـ- وفي اليونان ظهرت فلسفات كثيرة نادى معظمها بخالق للكون سموه واجباً للوجود أو علة للعلل، عنه نشأ العالم وصدر، ولكن هذه الفلسفة وقفت حائرة عاجزة أمام الغاية والهدف الذي من أجله خلق هذا الخالق الكون، والنهاية التي يسير إليها الناس.
2- وكل هذه الفلسفات السابقة كانت محاولات بشرية لمعرفة الغيب، وما وراء هذا العالم المشاهد، وبديهي أن تنتهي هذه المحاولات البشرية بالإخفاق الذريع، إذ لا سبيل للبشر إلى معرفة الغيب إلا الظن والحدس والتخمين، أو الجن والشياطين.
3- بعث الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم ليرشد كل أولئك الحيارى الضالين إلى ربهم وخالقهم سبحانه وتعالى، وليعلمهم الحكمة التي من أجلها خلقهم، والغاية التي إليها يسيرون، والمنهج الذي يحبه الله لعباده ويرضاه لهم.
4- وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس الدليل الكامل على أنه رسول من الله تبارك وتعالى، يأتيه الوحي من السماء، فقال لهم: هذا كلام الله، أقرؤه عليكم، وإن لم تصدقوني فأتوا بسورة واحدة من مثله.
5- وكان على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يواجه كل هذا الركام من الأفكار والعقائد والمذاهب والفلسفات، وأن يقيم الحجة والبرهان على فسادها جميعاً، وصحة ما يدعو هو الناس إليه، وكانت المعركة عقائدية.
6- وتركزت هذه الحرب حول أصلين اثنين يتفرع عنهما فروع كثيرة:
أ- فالأصل الأول هو توحيد الله وحده، وهذا يعني أنه الإله الخالق وحده، المعبود وحده، الذي لا يشاركه في صفاته وأفعاله أحد سبحانه وتعالى، والذي يتصف بكل صفات الكمال والجمال والجلال، وينتفي عنه أضداد ذلك.
ب- والأصل الثاني هو توحيد الطريق إليه، فلا يحكم في شؤون الناس غيره، ولا يتقرب إليه بما شرع هو سبحانه وتعالى، وكان هذا هو معنى "لا إله إلا الله، محمد رسول الله" فلا إله إلا الله: الأصل الأول، ومحمد رسول الله: الأصل الثاني.
7- ولقد نُوزع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذين الأصلين:
أ- فأما المشركون من العرب فقالوا: {أجعل الآلهة إلهاً واحداً إنَّ هذا لشيءٌ عُجابٌ} (الزمر:3) وقالوا عن آلهتهم: {ما نعبُدهم إلاّ ليقربونا إلى الله زُلفى} (الزمر:3) وقالوا: {هؤلاءِ شُفعاؤُنا عندَ اللهِ} (يونس:18).
وكان رد الله تبارك وتعالى: قل: {لَو كانَ فيهِما ءالهَةٌ إلا اللهُ لفسدَتا} (الأنبياء:22)، {قُل للهِ الشَّفاعَة جميعاً} (الزمر:44).
وعن الأصل الثاني: قال تعالى هادماً تشريعاتهم الباطلة في الحلال والحرام والتقرب: {أم لهم شركاؤا شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} (الشورى:21).
ب و ج- وأما اليهود والنصارى فزعمت كل طائفة أن طريقها هو الصواب، وأن معبودها هو الحق، وأن الجنة خالصة لهم من دون الناس، فكان رد الله تبارك وتعالى: {قل إن هدى الله هو الهدى} (البقرة:120)، {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} (آل عمران:31).
والقرآن كله بيان لجهاد الرسول صلى الله عليه وسلم مع هذه الطوائف الثلاث في شأن هذين الأصلين.
8- وآمن بالرسول صلى الله عليه وسلم رجال أخلصوا دينهم لله، فأحبوه وآثروه على كل شيء، وأحبوا رسوله صلى الله عليه وسلم، وافتدوه بأرواحهم وأنفسهم، وبذلوا الجهد في متابعته وطاعته، وفي تنزيه الله وتقديسه وعبادته، وتحققوا بهذين الأصلين، وقاموا بها خير قيام حتى أثنى عليهم الحق سبحانه وتعالى في آيات كثيرة من كتابه. من ذلك قوله جل وعلا:
{محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود}..الآية (الفتح:29)، فرضي عنهم سبحانه ورضوا عنه، وعرفوه حق معرفته، وقاموا بدينه خير قيام.
وأثنى عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: [خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم] (رواه الشيخان وغيرهما عن ابن مسعود، وغيرهم عن غيره)، وشهد لأفراد منهم بالجنة والفضل، وكان من هؤلاء أبو بكر الصديق رضي الله عنه، الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم : [وزنت بالأمة فرجحت، ووزن أبو بكر بالأمة -لست فيها- فرجح، ووزن عمر بالأمة -لست فيها وأبو بكر- فرجح] (رواه أحمد (2/76) بنحوه وإسناد ضعيف، فيه عبيد الله بن مروان أورده ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل-5/334) ولم يحك فيه جرحاً ولا تعديلاً، وذكره ابن حبان في الثقات، وفيه أيضاً أبو عائشة أورده صاحب (الجرح والتعديل-9/417) ولم يحك فيه كذلك جرحاً ولا تعديلاً، وعلى هذا فهما مجهولان وباقي رجاله ثقات. وروى أحمد (5/44 و 50) وأبو داود (4634) والترمذي (2389-تحفة) وصححه، كلهم عن أبي بكرة أن أحد الصحابة رأى في منامه أن ميزاناً دلي من السماء، فوزن به النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، فرجح النبي صلى الله عليه وسلم، ثم وزن به أبو بكر وعمر، فرجح أبو بكر، ثم وزن عمر وعثمان، فرجح عمر، ثم رفع الميزان. وقد قواه أستاذنا الألباني في (تخريج المشكاة-3/233) بطريقيه).
وقال: [لو كان نبي بعدي لكان عمر] (رواه بنحوه أحمد (4/154) والترمذي (2/293) وحسنه والحاكم (3/85) وصححه وغيرهم، كلهم عن عقبة بن عامر مرفوعاً، وحسنه أستاذنا الألباني في (السلسلة الصحيحة-327) وفي (صحيح الجامع-5160))، وقال لبلال: [إني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة] (رواه البخاري (3/376)-من الفتح) وأحمد (2/333 و439) عن أبي هريرة، ولفظ البخاري: قال النبي صلى الله عليه وسلم لبلال عند صلاة الفجر: [يا بلال، حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة] قال: ما عملت عملاً أرجى عندي أني لم أتطهر طهوراً في ساعة ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي. ودف النعل هو صوت حركتها الخفيف وسيرها اللين)، ونحو ذلك كثير جداً.
9- ومع ذلك فقد حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم طيلة حياته على بقاء أصلي التوحيد "لا إله إلا الله، محمد رسول الله" نقيين صافيين، فما كان يسمح بتاتاً يخدش هذين الأصلين، ولو من أحب الناس لديه وآثرهم عنده صلى الله عليه وسلم.
ومن الأدلة على ذلك:
أ- أنه رأى يوماً بيد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ورقة من التوراة، وكان عمر قد أعجبه ما فيها، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبا ًشديداً، وقال لعمر: [أهذا وأنا بين أظهركم، لقد جئتكم بها بيضاء نقية.. والله لو كان موسى حياً لما وسعه إلا أن يتبعني] (رواه بنحوه الإمام أحمد في مسنده (3/387) والبيهقي في شعب الإيمان، والدارمي(1/115-116) بأتم منه، قال أستاذنا الألباني في (تخريج المشكاة-1/63): "وفيه مجالد بن سعيد، وفيه ضعف، ولكن الحديث حسن عندي لأن له طرقاً كثيرة عند اللالكائي والهروي وغيرهما، وقد خرجت بعضها في (الإرواء-1589)")، وفي هذا الحديث من الفقه:
أولا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم تعجب أن يبدأ الاهتداء بغير الكتاب والسنة وهو ما زال حياً. ومن مقتضى الإيمان بالكتاب والسنة أن يعتقد أن الهدي فيهما وحدهما.
وثانيا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد جاء بالدين نقياً خالصاً، لم تشبه شائبة من تغيير أو تبديل أو تحريف، والصحابة يتلقونه غضاً طرياً خالصاً، فكيف ينصرفون عنه ويهتدون بما شابه التحريف والتبديل والزيادة والنقص.
وثالثا: أن موسى عليه السلام نفسه الذي نزلت عليه التوراة لو أنه حي موجود لكان اللازم في حقه هو متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وترك شريعته التي بلغها للناس.
وهذا الحديث أصل في بيان منهج الكتاب والسنة، وأنه لا يجوز لأحد أن يهتدي بعلم يقرب إلى الله، ويصلح النفس غير الذي بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لو كان أصله من شريعة منزلة علي أحد الأنبياء السابقين.
ب- والدليل الثاني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع خطيباً يخطب بين يديه فكان مما قاله: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : [بئس خطيب القوم أنت، قل: ومن يعص الله ورسوله فقد غوى] (رواه مسلم (6/159-بشرح النووي) وأحمد (4/256 و379).
فهذا الخطيب قد قاطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبَّح قوله أمام الناس، والسبب أنه جمع بين الله ورسوله في ضمير واحد [ومن يعصهما] فأمره الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يعيد ذكر الإسم الظاهر لله ولرسوله، حتى لا يُظن ولو من بعيد أن منزلة الرسول كمنزلة الله عز وجل. وهذا الحرص من الرسول صلى الله عليه وسلم دليل على وجوب صون جناب توحيد الله تبارك وتعالى صوناً كاملاً، ووجوب التفريق التام بين ما يجب لله عز وجل، وما يجب لرسوله صلى الله عليه وسلم.
ج- والدليل الثالث أن عثمان بن مظعون رضي الله عنه، وكان من خيار الصحابة، لما توفي، وحضر عنده الرسول صلى الله عليه وسلم سمع الصحابية الجليلة أم العلاء تقول: شهادتي عليك أبا السائب أن الله قد أكرمك.. فرد الرسول صلى الله عليه وسلم قائلاً: [وما يدريك أن الله قد أكرمه؟] وكان هذا تنبيهاً عظيماً من الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه الصحابية بأنها قد حكمت بحكم غيبي، وهذا لا يجوز، لأنه لا يطلع على الغيب إلا الله عز وجل، ولكنها ردت قائلة: سبحان الله يا رسول الله!! ومن يكرم الله إذا لم يكرمه؟ أي إذا لم يكن عثمان بن مظعون رضي الله عنه ممن يكرمهم الله تبارك وتعالى فمن بقي منا حتى يكرمه الله تبارك وتعالى.
وهذا رد في غاية البلاغة والفهم. ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد عليها بما هو أبلغ من ذلك حيث قال لها: [والله إني لرسول الله لا أدري ما يفعل بي غداً] وكان هذا نهاية الأمر وحسمه، فالرسول بنفسه وهو من هو صلوات الله وسلامه عليه يجب أن يظل خائفاً مترقباً (يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه) وهنا وصلت أم العلاء إلى الحقيقة الشرعية العظيمة فقالت: واللهلا أزكي بعده أحداً أبداً (رواه البخاري (3/358 و6/223 و224 و8/266 و6/49 و69-من الفتح) وأحمد (6/436) عن أم العلاء الأنصارية بنحوه).
وهذا الأصل مقرر في الشريعة في آيات وأحاديث كثيرة، منها قوله تبارك وتعالى: {ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلاً* انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا} (النساء:49 و50) ومنها قوله: {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا} (النساء:123)، وكان هذا رداً على اليهود الذين قالوا: نحن أهل الجنة، ونحن شعب الله المختار، ورداً على النصارى الذين قالوا: بل نحن أهل الجنة، لأننا أتباع ابن الله المخلص للبشر من خطيئتهم، ورد أيضاً على المسلمين الذين قالوا: بل نحن أهل الجنة لأننا أتباع رسوله محمد خاتم الرسل والموحدين، فأخبر تعالى أن الجنة ليست بالأماني، وإنما بالعمل الصالح، وأن من عمل سوءاً يجز به، ولا تنفعه نسبته وروي في الحديث: [من قال أنا في الجنة فهو النار] (فيه إشارة إلى ضعفه، وقد أورده الحافظ السخاوي في المقاصد الحسنة ص423 ضمن الحديث على حديث: [من قال: أنا مؤمن فهو كافر، ومن قال: أنا عالم فهو جاهل] وعزاه إلى (المعجم الصغير للطبراني عن يحيى بن أبي كثير) وقال: وسنده ضعيف، وهو عند الديلمي في مسنده عن جابر بسند ضعيف جداً، ورواه الحارث بن أبي أسامة من جهة قتادة عن عمر بن الخطاب موقوفاً عليه، وهو منقطع).
د- والدليل الرابع أن رجلاً جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال له: ما شاء الله وشئت فقال له صلى الله عليه وسلم : [أجعلتني لله نداً؟ قل ما شاء الله وحده] (رواه أحمد (1/214 و224 و283 و347) والبخاري في (الأدب المفرد-783) وغيرهما، وأورده أستاذنا الألباني في (السلسلة الصحيحة-138) وعزاه إلى مخرجيه وحسنه)، فجعل صلى الله عليه وسلم المشيئة لله وحده، حتى يُعلّم المؤمنين أن لا مشيئة لأحد مع مشيئة الله تبارك وتعالى.
هـ- وأما الدليل الخامس فهو أن بعض الصحابة رضوان الله عليهم مروا في أثناء خروجهم إلى هوازن بعد فتح مكة على شجرة، كان المشركون يعلقون عليها سيوفهم، ظانين أنه من فعل ذلك حالفه النصر في معاركه مع العدو، فقالوا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. أي شجرة ينوطون بها أسلحتهم. فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: [قلتم والذي نفسي بيده كما قال بنو إسرائيل لموسى: {اجعل لنا إلهاً كما لهم ءَالِهَةٌ..} (رواه الإمام أحمد في مسنده (5/218) والترمذي في (سننه–6/407 و408-تحفة) وقال: حديث حسن صحيح، قلت: وإسناده صحيح كما قال، ورجاله رجال الستة غير سنان بن أبي سنان فلم يرو له أبو داود وابن ماجة)، فبين صلى الله عليه وسلم أن هذا من عمل المشركين، وأن مشابهتهم في هذا شرك بالله تبارك وتعالى، إذ طلب البركة والنصر من غير الله عز وجل شرك به تعالى.
10- والأدلة السابقة كلها لبيان أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان ليسمح بتاتاً بخدش الأصل الأصيل في الإسلام، وهو توحيد الله عز وجل، والقول عليه بلا علم. وأخذ الهداية من غيره سبحانه وتعالى، وغير رسوله صلى الله عليه وسلم.
11- وقد سدَّ رسول الله صلوات الله وسلامه عليه باب العرافة والكهانة وادعاء علم الغيب، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن مدعي ذلك كافر، وأن من صدَّق عرافاً أو كاهناً فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن العرافين فقال: [ليسوا بشيء] هكذا بنفي قيمتهم وتحقيرهم، فقال له أصحابه رضوان الله عليهم: ولكنهم يخبروننا أحياناً بالأمر، فيكون كما قالوا، فأخبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن الشياطين تركب بعضها بعضاً وتصل إلى العنان، وتسمع الملائكة تتكلم بالأمر من أمر الله تعالى، فيتعلمونه منهم، فيرسل الله عليهم الشهب، فيلحقهم الشهاب أحياناً فيحرقهم، وأحياناً يلقون الكلمة إلى من هو أسفل منهم قبل الشهاب، فيكذب الشيطان مع هذه الكلمة مئة كذبة، فلذلك يصدق أولياء الشياطين من الإنس مرة، ولكنهم يكذبون كثيراً (رواه مسلم في (صحيحه 14/225-نووي) ولفظه: قالت عائشة: سأل أناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكهان، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ليسوا بشيء]. قالوا : يا رسول الله، فإنهم يحدثون أحياناً الشيء يكون حقاً؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة، فيخلطون فيها أكثر من مئة كذبة]، وأما صعود الشياطين إلى السماء لاستراق السمع، وقذفهم بالشهب فقد ورد في حديث آخر رواه البخاري في عدة مواضع من صحيحه، منها كتاب التفسير (9/452-فتح) عن أبي هريرة، وعزاه ابن كثير إلى أبي داود والترمذي وابن ماجة أيضاً. كما ورد مثله في حديث رواه مسلم في صحيحه (7/36 و37-نووي) وأحمد وغيرهما عن ابن عباس عن رجل من الأنصار).
12- ولما شك الصحابة في (ابن صياد اليهودي) الذي كان يسكن المدينة، وظنوه الدجال الذي حدث عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ الرسول معه جماعة وزاره في منزله قال له الرسول مختبراً: [لقد خبأت لك خبئاً..].
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أضمر في نفسه (سورة الدخان) فسأله الرسول عما في نفسه، فقال عدو الله هو الدخ) ولم يستطع أن يكمل الكلمة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: [اخسأ فلن تعدو قدرك]. أي لن تتعدى كونك كاهناً تتصل بالجن. ولذلك قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم [كيف ترى؟] قال: يأتيني أحياناً صادق وكاذب. أي تأتيه أخبار من الشيطان صادقة أحياناً، وكاذبة أخرى، فقال رسول الله: [لقد لُبِّس عليه] (رواه بنحوه مطولاً البخاري (3/462 و6/512 و13/180-من الفتح) ومسلم (17/46 و58-بشرح النووي) وغيرهما).
وفي هذا الحديث دليل على أن الشيطان من الممكن أن يطلع على ما في نفس المؤمن، ويخبر وليه من الإنس، وأننا مأمورون ألا نصدق من الغيب إلا ما أتانا من طريق الله، ومن طريق رسوله صلى الله عليه وسلم فقط.
وكل هذه الأدلة التي ذكرناها، وغيرها لا يحصى، إنما كانت لتثبت الجانب العقائدي الإيماني في دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبيان أن العقيدة والإيمان بالغيب مصدره الله تبارك وتعالى، وأنه لا يجوز لمسلم بتاتاً أن يتخذ طريقاً آخر للغيب يتلقى عنه، وأن من فعل ذلك فقد خرج من الإيمان بالله تعالى.
ب- الكتاب والسنة منهجاً
للتشريع ميادين كثيرة منها العبادات، والمعاملات، والسياسة وأمور المعاش والحياة، وباب الاجتهاد مفتوح فيها جميعاً إلا العبادات فليس فيها اجتهاد، فكل ما يتقرب به إلى الله تبارك وتعالى من أعمال يجب الوقوف فيها عند الحد المشروع، ولم يسمح الرسول صلى الله عليه وسلم لأحد أن يزيد على ما قال فيها، أو أن يبدل شيئاً منها. وهاك بعض الأدلة التي تثبت هذا الأصل من أصول الإيمان:
أ- رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يمشي في الحج بين رجلين يسندانه فقال صلى الله عليه وسلم: [ما هذا؟] فقالوا: يا رسول الله نذر أن يحج ماشياً. فقال صلى الله عليه وسلم: [إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني!! مروه فليركب] (رواه بنحوه البخاري (4/450 و451-فتح) ومسلم (11/102 و103) وغيرهما عن أنس) فنهى صلى الله عليه وسلم عن فعل لم يشرعه الله عز وجل، وإن كان فاعله قاصداً به التعبد والتقرب إلى الله عز وجل.
ب- ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً آخر يجلس في الشمس فسأل عنه، فقالوا: يا رسول الله نذر أن يصوم، ولا يتكلم ويجلس في الشمس فقال صلوات وسلامه عليه: [ليتم صومه، وليتكلم وليجلس في الظل] (رواه بنحوه البخاري (12/401 و412) وأبو داود (3300) وغيرهما عن ابن عباس) فأقره رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصوم الشرعي فقط، ونهاه عن الصوم المبتدع وهو السكوت. وإن كان مشروعاً في شريعة سابقة كما في قصة زكريا وقول مريم عليهما السلام: {إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسياً} (مريم:26)، ولكن الله عز وجل لم يتعبدنا بهذه الشريعة وأمره بأن يتحول إلى الظل، لأن الجلوس في الشمس مع وجود الظل تكلف سخيف، وخروج عن جادة الحق، وعبادة لم يشرعها الله سبحانه وتعالى.
ج- وأبلغ من الدليلين السابقين حديث عبدالله بن عمرو بن العاص أن أباه شكاه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه زوجه امرأة من أشراف العرب، ومكث يسألها كل يوم: كيف رأيت زوجك؟ فقالت: صالحاً غير أنه لم يطأ لنا فراشاً.. وذلك لخمس عشرة ليلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبدالله بن عمرو بن العاص: [بلغني أنك تصوم النهار وتقوم الليل]، فقال: نعم يا رسول الله. ثم قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: [صم من كل شهر ثلاثة أيام] فقال: يا رسول الله! قال صلى الله عليه وسلم: [خمساً]. قال: يا رسول الله! قال: [سبعاً]. قال: يا رسول الله! قال: [تسعاً]، ثم قال له في النهاية: [صم صيام أخي داود كان يصوم يوماً، ويفطر يوماً ولا يفر إذا لاقى] (هذا الحديث مركب من روايتين رواهما مسلم في صحيحه (8/44-47 نووي) بنحوه، كما روى نحوه البخاري (5/124 فتح)).
وفي هذا الحديث من الفقه أن منهج الإسلام هو الإعتدال بين حاجات الإنسان كلها فيعطي الإنسان حق ربه، ولا ينسى في سبيل ذلك حق زوجه ونفسه، وعينه وقوته. ولذلك جاء في الحديث الصحيح: [إن لربك عليك حقاً، ولزوجك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه] (رواه البخاري (5/114 فتح) في قصة سلمان وأبي الدرداء، وفيه أن المتكلم بهذا هو سلمان، وقد صدق النبي صلى الله عليه وسلم كلامه هذا. وفي قصة ابن عمرو الجملتان الأوليان منه مرفوعتين).
وهنا لفظه في الحديث يجب أن نقف عندها طويلاً، وهي أن المسلم لا يجوز أن يصوم صوماً يضعفه حتى إنه ليفر من العدو، ولذلك قال الرسول لعبد الله: [فصم صيام داود كان يصوم يوماً، ويفطر يوماً، ولا يفر إذا لاقى] وهذه القوة البدنية للقاء العدو مطلوبة في الإسلام، لأن الجهاد هو من أعلىمراتب الإسلام. فالذين يميتون قواهم بالتعبد ولو كان أصله مشروعاً، ويطغى هذا على جانب آخر من العبادة فإنهم مفرطون بهذا الفعل، عاصون لله تبارك وتعالى من جهة أخرى.
د-وفي الحديث الصحيح الآخر أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صومه، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً، وجلس عمر بن الخطاب يقول: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً حتى سكن غضب النبي صلى الله عليه وسلم (رواه مسلم (1/49-51) عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه بنحوه مطولاً)، وسر غضبه صلوات الله وسلامه عليه أن هذا السائل أراد أن يضاهي فعل الرسول في هذه العبادة التي كان له فيها خصوصية، وهي أنه يواصل اليوم واليومين والثلاثة وكان يُسأل صلى الله عليه وسلم عن ذلك فيقول: [لست كهيئتكم إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني] (رواه مسلم (7/212 و215) بنحوه عن أبي هريرة وعائشة وأنس رضي الله عنهم).
هـ- وأبلغ هذه الأدلة كلها في مسألة التعبد والتقرب، أنه لا يجوز فيه إلا اتباع المشروع، والتقيد بالكتاب والسنة هو حديث النفر الثلاثة الذين أتوا إلى بيوت النبي صلى الله عليه وسلم، فسألوا عن عبادته، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقال أحدهم: وأين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم! إن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. أما أنا فأقوم ولا أنام، وقال الآخر: أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الثالث: أما أنا فلا أتزوج النساء. فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبر خبرهم صعد المنبر، وجمع الناس ثم قال: [ما بال أقوام يقولون كذا.. أما إن أعلمكم بالله، وأتقاكم لله أنا، أما إني لأصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني] (رواه البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه وليس فيه صعود المنبر وجمع الناس).
وفي هذا الحديث من الفقه شيء كثير ويهمنا الآن ما نحن بصدده، وهو أن أي تجاوز فيما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في العبادات التي يتقرب بها إلى الله عز وجل، فمعنى ذلك الخروج من منهج الإسلام إلى منهج آخر حتى ولو صلحت النيات، وأريد بذلك وجه الله عز وجل، فإن الرب تبارك وتعالى لا يُعبد إلا بما شرع.
وأمر آخر وهو أن تجاوز فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، سواء كان بتشريع جديد كالترهُّب، أو الزيادة في المشروع كالصيام أبداً، وقيام الليل كله هو اتهام للرسول صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن في القمة من معرفة الله تبارك وتعالى، والقيام بحقه. ولذلك قال أولئك النفر: وأين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، يعنون أن الله قد غفر ذنوبه، فليس بمحتاج إلى اجتهاد في العبادة، ومعنى هذا أن الرسول قد ترك شيئاً من وسعه في العبادة استناداً إلى هذه المغفرة، والحظوة عند الله تبارك وتعالى، وهذا من الاعتقادات التي لا تليق في حق الرسول صلى الله عليه وسلم الذي ما ترك وسعاً في عبادة الله وطاعته، وكان صلى الله عليه وسلم في القمة دائماً، وفي المقدمة دائماً كما أمره بذلك ربنا سبحانه وتعالى حيث قال: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين* لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين} (الأنعام:162و163)، فهو صلى الله عليه وسلم أول المسلمين في كل شيء، فلا يجوز لمسلم أن يظن فيه غير ذلك، والزيادة علي ما شرعه إنما هي اتهام له صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال: [إن أعلمكم بالله، وأتقاكم لله أنا] ثم فاصل بين من أراد طريقه بالالتزام، ومن لم يلتزم قال له [فمن رغب عن سنتي فليس مني].
16- ولم يكتف الرسول صلى الله عليه وسلم ببيان كل ذلك، بل أعلن في كل خطبة من خطبه للناس : [وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار] (هاتان الجملتان جزء من خطبة الحاجة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبدأ بها خطبه، والجملة الأولى عند مسلم والبيهقي، وهي الجملة الثانية عند النسائي، وإسناده صحيح، وانظر رسالة (خطبة الحاجة) لأستاذنا الألباني فقد جمع فيها طرقها ورواياتها)، وقال أيضاً : [من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد] (رواه البخاري ومسلم) فكل عمل محدث يراد له التقرب إلى الله عز وجل فهو مردود على صاحبه، والتعبد هو بالمشروع فقط.
17- ولقد أصل الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أصلاً خطيراً، وهو تعمد مخالفة أهل الكتاب والأمم الأخرى، وذلك حتى تتحقق ميزة الأمة بالمنهج المستقل والأفعال المستقلة، وحتى لا تختلط أفعال الأمة وعباداتها بأفعال الأمم الأخرى وعباداتها، فأمر أن نصلي بالنعال والخفاف مع العلم أن خلعها أتم لمعاني الخضوع والذلة، وذلك مخالفة لليهود والنصارى الذين لا يصلون في خفافهم ونعالهم. فقال: [إن أهل الكتاب لا يصلون في خفافهم ونعالهم، فصلوا في خفافكم ونعالكم] (رواه أبو داود (652) عن شداد بن أوس، وإسناده صحيح، ولفظه: [خالفوا اليهود، فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم] وصححه الألباني في (صحيح الجامع-3205) و (تخريج المشكاة-765)).
ولهذا الأصل أدلة وشواهد لا تحصى كثرة (من أجمع الكتب المؤلفة في ذلك كتاب (اقتضاء الصراط المستقيم) لشيخ الإسلام ابن تيمية والفصل الخاص بحرمة التشبه بالكفار من (حجاب المرأة المسلمة) للألباني)، والمراد هنا التنبيه على أن الأمة الإسلامية يجب أن تكون أمة مستقلة في كل شيء: المنهج والعبادة، والسلوك والآداب والعبادات، وحتى اللباس والمظاهر والعادات.
18- وأرجو أن أكون بهذه المقدمة قد أوضحت جانباً من هذه القضية: قضية الالتزام بالكتاب والسنة عقيدة وعبادة، وسلوكاً وآداباً بالمشروع فقط.
الصحابة رضوان الله عليهم والأصلان السابقان:
19- فهم الصحابة رضوان الله عليهم هذا الأصل الأصيل لأنه مقتضى قولهم "لا إله إلا الله محمد رسول الله" فاتبعوا هذا الأصل، وكانوا حراساً له، فما شاهدوا انحرافاً ولو يسيراً إلا شددوا نكيرهم على فاعليه، وبتروه من أصله. ومن أكبر الأدلة على ذلك أن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه دخل المسجد في الكوفة فرأى حلقاً، وفي وسط كل حلقة كوماً من الحصى، ورجل قائم على كل حلقة يقول لهم: سبحوا مئة فيسبحون مئة. احمدوا مئة فيحمدون مئة، كبروا مئة، فيكبرون مئة؛ فقال لهم ابن مسعود رضي الله عنه: يا قوم! والله لأنتم على ملة هي أهدى من ملة رسول صلى الله عليه وسلم أو مقتحموا باب ضلالة (رواه الدارمي (1/68) بتمامه مع بعض اختلاف، وإسناده جيد، وصححه أستاذنا الألباني في رسالة (الرد على التعقب الحثيث ص45))، وهذه قضية منطقية سليمة، فهؤلاء إما أن يكونوا أهدى من الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنهم قد وفقوا لعمل لم يصل إليه علم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإما أن يكونوا في ضلالة، والفرض الأول منتف حتماً، لأنه لا أحد أفضل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يبق إلا الفرض الآخر، وهو أنهم قد اقتحموا باب ضلالة، فقالوا: والله يا أبا عبدالرحمن ما أردنا إلا الخير، وهذا دليل منهم على صلاح نياتهم، وإرادتهم وجه الله تبارك وتعالى بهذا العمل المبتدع. ولكن عبدالله بن مسعود قال لهم: "وكم من مريد للخير لم يبلغه"!! وهذا معناه أن النية وحدها لا تكفي لتصحيح الفعل، بل لا بد أن ينضاف إلى ذلك التقيد بالمشروع.
20- وبالغ الصحابة رضوان الله عليهم في حماية جناب الدين وجانبه أن يدخل فيه الغريب، وما ليس منه حتى يصفو للناس التأدب بالأدب الخالص، والتخلق بالخلق الكامل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فطرد علي بن أبي طالب رضي الله عنه القصاصين من المساجد، وهم الوعاظ الذين يعظون الناس، ويزعمون ترقيق قلوبهم بالقصص الخيالي، والحكايات والأساطير، وأنكر ابن عمر على رجل عطس، فقال: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله قائلاً له: "ما هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بل قال إذا عطس أحدكم فليحمد الله ولم يقل: وليصل على رسوله"!! (رواه بنحوه الترمذي (8/9 تحفة) وفيه ضعف، ورواه أيضاً الطبراني والبزار فينظر اسناده فيهما، فلعله يقوى به).
الحقائق.. والموازين:
وبمجموع هذه الأدلة يتضح لنا الحقائق التالية لفهم قضية الكتاب والسنة:
أولاً: الهدى هو ما كان من الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فقط {قل إن هدى الله هو الهدى} {فماذا بعد الحق إلا الضلال}.
وإن هذا الهدى محصور في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فقط، وليس وراء هذا طريق ثالث يقرب إلى الله، ويباعد عن النار.
ثانياً: إن كل عقيدة تخالف كتاب الله وسنة رسوله هي عقيدة باطلة يجب حربها والقضاء عليها.
ثالثاً: إن كل زيادة أو نقص في تشريع العبادات والسلوك يراد به التقرب إلى الله تبارك وتعالى، وإصلاح النفس إنما هو بدعة مرفوضة، حتى لو كان صدر هذا ممن ينتسبون إلى الإسلام ويدعون إليه.
رابعاً: إن كل من ادعى علماً غيبياً في كتاب الله وسنة رسوله، زاعماً أنه قد وصل بطريق الجن أو الفيض أو الفتح، أو الاتصال بالسماء إنما هو كاذب مارق.
خامساً: إن أقوال العلماء في أمور الدين لا تؤخذ قضية مسلمة قط، بل لا بد من عرضها على الكتاب والسنة، فما وافق أخذ وما خالف ذلك رد، وإذا جاز لنا أحياناً الأخذ بها والعمل بها إذا لم نعلم الدليل، فإنما ذلك إلى حين معرفتنا بالدليل، ومتى عرفنا الدليل حكمنا به على القول.
سادساً: إن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا أعبد الناس، وأتقى الناس، وأنهم تحققوا بهذين الأصلين: الكتاب والسنة، وأن من كان على مثل ما كانوا عليه فقد اهتدى، ومن شذ يميناً أو يساراً فقد ضل.
--------------------------------------------------------------------------------
الباب الثاني
مجمل تاريخ الشريعة الصوفية
الفصل الأول
لمحة سريعة عن تاريخ التصوف
لا يعرف على وجه التحديد من بدأ التصوف في الأمة الإسلامية ومن هو أول متصوف وإن كان الإمام الشافعي رضي الله عنه عندما دخل مصر قال: تركت بغداد وقد أحدث الزنادقة فيها شيئاً يسمونه السماع.. والزنادقة الذين عناهم الشافعي هنا هم المتصوفة (والسماع) هو الغناء والمواجيد والمواويل التي ينشدونها ومعلوم أن الشافعي دخل مصر سنة 199هـ وكلمة الشافعي توحي بأن قضية السماع هذه قضية جديدة ولكن أمر هؤلاء الزنادقة يبدو أنه كان معلوماً قبل ذلك. بدليل أن الشافعي قال كلاماً كثيراً عنهم كقوله مثلاً (لو أن رجلاً تصوف أول النهار لا يأتي الظهر حتى يكون أحمق) (تلبيس إبليس لابن الجوزي ص370) وقال أيضاً: ما لزم أحد الصوفية أربعين يوماً فعاد إليه عقله أبداً (المصدر السابق ص370)، وكل هذا يدل على أنه قد كان هناك قبل نهاية القرن الثاني الهجري فرقة معلومة عند علماء الإسلام يسمونهم أحياناً بالزنادقة وأحياناً بالمتصوفة..
وأما الإمام أحمد فقد كان معاصراً للشافعي وتلميذاً له في أول الأمر فقد أثر عنه أقوال كثيرة في التنفير من أفراد معينين نسبوا إلى التصوف. كقوله في رجل جاء يستفتيه في كلام الحارث المحاسبي: قال أحمد بن حنبل: "لا أرى لك أن تجالسهم" وذلك بعد أن اطلع أحمد بن حنبل على مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها للبكاء -ومحاسبة النفس كما يزعمون- والكلام على الوساوس وخطرات القلوب. فلما اطلع الإمام أحمد على ذلك قال لسائله محذراً إياه من مجالستهم وكتبهم "إياك وهذه الكتب، هذه كتب بدع وضلالات". والذي يبدو أن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه قال هذا الكلام في مطلع القرن الثالث، ولكن هذا القرن ما كاد يكتمل حتى ظهر التصوف على حقيقته، وانتشر في الأمة انتشاراً ذريعاً، واستطاع المتصوفة أن يظهروا ما كانوا يخفونه سابقاً.
والمطلع على الحركة الصوفية من أول نشأتها إلى حين ظهورها العلني على ذلك النحو يجد أن أساطين الفكر الصوفي جميعهم بلا استثناء في القرن الثالث والرابع الهجريين كانوا من الفرس ولم يكن فيهم عربي قط، وعند مقابلة الدين الصوفي ستجد أن التصوف هو الوجه الآخر للتشيع (اقرأ الفصل الخاص بذلك: الصلة بين التصوف والتشيع) وأن أهداف التصوف والتشيع كانت واحدة تقريباً، في السياسة والدين،،..، والمهم هنا هو التذكير بأن التصوف بلغ غايته وذروته من حيث العقيدة والتشريع في نهاية القرن الثالث حيث استطاع الحسين بن منصور الحلاج أن يظهر معتقده على الملأ ولذلك أفتى علماء العصر بكفره وقتله فقتل سنة 309هـ وصلب على جسر بغداد، وسئل الصوفية الآخرون فلم يظهروا ما أظهر الحلاج.. وسيأتي وصف تفصيلي لعقيدة الحلاج عند بيان العقيدة الصوفية.
وعلى الرغم من ذلك فإن الصوفية ظلت تواصل انتشارها في أرض فارس على الخصوص ثم العراق.. وساعد على انتشارها في فارس أن أقام رجل يسمى أبو سعيد الميهني نظاماً خاصاً للخانات الذي أصبح فيما بعد مركزاً للصوفية، وقلده في ذلك عامة رجال التصوف ومن هنا نشأت في منتصف القرن الرابع الهجري بدايات الطرق الصوفية التي سرعان ما انتشرت في العراق ومصر، والمغرب، وفي القرن السادس ظهرت مجموعة من رجال التصوف كل منهم يزعم أنه من نسل الرسول صلى الله عليه وسلم واستطاع كل منهم أن يقيم له طريقة صوفية خاصة وأتباعاً مخصوصين، فظهر الرفاعي في العراق، والبدوي في مصر وأصله من المغرب ولا يعرف له أم ولا أب ولا أسرة ولا هو من المغرب، وكذلك الشاذلي في مصر وأصله كذلك من المغرب. وتتابع ظهور الطرق الصوفية التي تفرعت من هذه الطرق، وفي القرون السادس والسابع والثامن.. بلغت الفتنة الصوفية أقصاها وأنشئت فرق خاصة بالدراويش وظهر المجاذيب وبنيت القباب على القبور في كل ناحية، وذلك بقيام الدولة الفاطمية في مصر وبسط سيطرتها على أقاليم واسعة من العالم الإسلامي، وبنائها للمزارات والقبور المفتراة كقبر الحسين بن علي رضي الله عنهما في مصر والسيدة زينب، وإقامتهم بعد ذلك الموالد والبدع والخرافات الكثيرة، وتأليههم في النهاية للحاكم بأمر الله الفاطمي؛ لقد بدأت الدعوة الفاطمية بالمغرب لتكون بديلاً للحكم العباسي السني، واستطاعت هذه الدولة تجنيد هذه الفرق الصوفية وغزو العالم الإسلامي بهذه الجيوش الباطنية التي كان لها أعظم الأثر بعد ذلك في تمكين الجيوش الصليبية من أرض الإسلام كما ستطالعه بأدلته في هذه الرسالة.
وأخيراً عم الخطب وطم في القرون المتأخرة التاسع والعاشر والحادي عشر إذ ظهرت آلاف الطرق الصوفية، وانتشرت العقيدة والشريعة الصوفية في الأمة، واستمر ذلك إلى عصر النهضة الإسلامية الحديثة.
لقد بدأت طلائع هذه النهضة ومقدماتها في آخر القرن السابع وبداية القرن الثامن على يد الإمام المجدد أحمد بن عبدالحليم بن تيمية الحراني الذي صاول كل العقائد المنحرفة بقلمه وبيانه ومن جملة ذلك عقائد المتصوفة وشرائعهم المبتدعة ولاقى في هذا ما لاقى (اقرأ الفصل الخاص بمناظرة ابن تيمية للرفاعية البطائحية) وجاء تلاميذه من بعده مجاهدين في هذا الصدد كابن القيم، وابن كثير، والحافظ الذهبي، والحافظ المزني، وغيرهم،.. ولكن شوكة التصوف والتخريف والعقائد الباطلة كانت قد تمكنت من الأمة تمكناً عظيماً، ولكن الله سبحانه وتعالى هيأ للأمة في القرن الثاني عشر الهجري الإمام الجليل محمد بن عبدالوهاب الذي تتلمذ على كتب شيخ الإسلام ابن تيمية فقام مصاولاً هذا الباطل الذي عم الآفاق وقد حقق الله على يديه ظهور النهضة الإسلامية الحديثة فقد استجاب لدعوته المخلصون في كل أنحاء العالم الإسلامي وتردد صداها في الهند والسودان ومصر والشام وكل بلاد الإسلام، ومنذ ذلك الوقت بدأت الحركة الصوفية تتعرى أوراقها شيئاً فشيئاً، وتبدد عقيدة التوحيد ظلامها، وتزيل من نفوس الأمة ترهاتها وخرافاتها..
واليوم بحمد الله يكتسح طوفان الحق جيش الباطل ويعود التصوف مرة أخرى إلى الإنجحار والاستتار كما بدأ وكما هو دائماً شأن العقائد الباطنية، ولكن ما زالت دولة الصوفية قوية في أنحاء كثيرة من العالم الإسلامي وخاصة في أفريقيا ودول من آسيا. حيث العربية غير معلومة وحيث الجهل بالتوحيد والدين الصحيح ما زال قائماً، ثم إن رموز التصوف ما زالت موجودة وأعني برموزه القبور والمزارات والشيوخ الضالين والعقائد الفاسدة؛ كل ذلك ما زال موجوداً، وهو يحتاج إلى جهد جهيد، وجهاد طويل لاقتلاع آثاره في القلوب والنفوس والأرض. وفي الفصل الخاص بالطرق الصوفية سيرى القارئ بعض هذا الواقع القائم إلى اليوم.
..هذه لمحة سريعة مجملة لنشأة الفكر الصوفي وتطوره..
الكتاب والسنة عقيدة ومنهجا
أ- الكتاب والسنة عقيدة
1- بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في عصر قد انطمست فيه معالم الإيمان بالحق تبارك وتعالى:
أ- فالعرب يعتقدون في وجود الله، وأنه خالق الكون، ومنزل المطر، ولكن هذا الإله في نظرهم لا يستطيع إحياءهم بعد الموت، وليست له غاية من خلق الناس غير هذه الدنيا التي خلقهم فيها، فليس هناك قيامة ولا حساب، ثم هو إله كملوك الأرض يتوسل إليه من أجل الرزق والمطر، والنصر على الأعداء بكل حبيب عنده كالملائكة والصالحين.
ب- وأما النصارى فقد درس دينهم الحق، ولم يبق عليه إلا أفراد قلائل، وأما الكثرة الغالبة فقد اعتقدت أن عيسى هو الله أو ابن الله -تعالى ربنا عما يقولون- وجعلوا علماءهم ورهبانهم أرباباً، ينفذون أقوالهم في كل شيء، ولو خالف ذلك نصوص الكتاب عندهم، ورفعوا الصالحين منهم إلى منزلة التقديس والتأليه.
ج- وأما اليهود فقد غالوا في تشبيه الله بخلقه، ونسبوا إليه كل القبائح التي تنسب إلى البشر من الكذب والبخل، والغفلة، وعدم العلم بالمستقبل.
د- وفي بلاد فارس والهند عاشت فلسفات كثيرة، كل فلسفة تصور معبودها بصورة تروق في عقلقائلها:
- ففلسفة نادت بإلهين للعالم: إله للنور وآخر للظلمة، وزعمت صراعاً بينهما، ودعت الناس إلى مساعدة إله الخيروالنور، بإشعال النيران لينتصر الحق على الباطل.
- وفلسفة نادت بخالق للكون، يجب على الإنسان أن يجاهد نفسه بصنوف من المجاهدات حتى يفنى فيه ويلتحق به، ولا تنسخ روحه مرة ثانية بعد الموت إلى هذا العالم.
- وفلسفة نادت بالوجود الكلي لذات واحدة، تعددت وجوداتها بتعدد صفاتها، ولهج الشعراء والكتاب من الفرس بحب هذه الذات التي تتراءى لهم في كل شيء، وتظهر لهم في كل موجود.
هـ- وفي اليونان ظهرت فلسفات كثيرة نادى معظمها بخالق للكون سموه واجباً للوجود أو علة للعلل، عنه نشأ العالم وصدر، ولكن هذه الفلسفة وقفت حائرة عاجزة أمام الغاية والهدف الذي من أجله خلق هذا الخالق الكون، والنهاية التي يسير إليها الناس.
2- وكل هذه الفلسفات السابقة كانت محاولات بشرية لمعرفة الغيب، وما وراء هذا العالم المشاهد، وبديهي أن تنتهي هذه المحاولات البشرية بالإخفاق الذريع، إذ لا سبيل للبشر إلى معرفة الغيب إلا الظن والحدس والتخمين، أو الجن والشياطين.
3- بعث الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم ليرشد كل أولئك الحيارى الضالين إلى ربهم وخالقهم سبحانه وتعالى، وليعلمهم الحكمة التي من أجلها خلقهم، والغاية التي إليها يسيرون، والمنهج الذي يحبه الله لعباده ويرضاه لهم.
4- وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس الدليل الكامل على أنه رسول من الله تبارك وتعالى، يأتيه الوحي من السماء، فقال لهم: هذا كلام الله، أقرؤه عليكم، وإن لم تصدقوني فأتوا بسورة واحدة من مثله.
5- وكان على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يواجه كل هذا الركام من الأفكار والعقائد والمذاهب والفلسفات، وأن يقيم الحجة والبرهان على فسادها جميعاً، وصحة ما يدعو هو الناس إليه، وكانت المعركة عقائدية.
6- وتركزت هذه الحرب حول أصلين اثنين يتفرع عنهما فروع كثيرة:
أ- فالأصل الأول هو توحيد الله وحده، وهذا يعني أنه الإله الخالق وحده، المعبود وحده، الذي لا يشاركه في صفاته وأفعاله أحد سبحانه وتعالى، والذي يتصف بكل صفات الكمال والجمال والجلال، وينتفي عنه أضداد ذلك.
ب- والأصل الثاني هو توحيد الطريق إليه، فلا يحكم في شؤون الناس غيره، ولا يتقرب إليه بما شرع هو سبحانه وتعالى، وكان هذا هو معنى "لا إله إلا الله، محمد رسول الله" فلا إله إلا الله: الأصل الأول، ومحمد رسول الله: الأصل الثاني.
7- ولقد نُوزع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذين الأصلين:
أ- فأما المشركون من العرب فقالوا: {أجعل الآلهة إلهاً واحداً إنَّ هذا لشيءٌ عُجابٌ} (الزمر:3) وقالوا عن آلهتهم: {ما نعبُدهم إلاّ ليقربونا إلى الله زُلفى} (الزمر:3) وقالوا: {هؤلاءِ شُفعاؤُنا عندَ اللهِ} (يونس:18).
وكان رد الله تبارك وتعالى: قل: {لَو كانَ فيهِما ءالهَةٌ إلا اللهُ لفسدَتا} (الأنبياء:22)، {قُل للهِ الشَّفاعَة جميعاً} (الزمر:44).
وعن الأصل الثاني: قال تعالى هادماً تشريعاتهم الباطلة في الحلال والحرام والتقرب: {أم لهم شركاؤا شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} (الشورى:21).
ب و ج- وأما اليهود والنصارى فزعمت كل طائفة أن طريقها هو الصواب، وأن معبودها هو الحق، وأن الجنة خالصة لهم من دون الناس، فكان رد الله تبارك وتعالى: {قل إن هدى الله هو الهدى} (البقرة:120)، {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} (آل عمران:31).
والقرآن كله بيان لجهاد الرسول صلى الله عليه وسلم مع هذه الطوائف الثلاث في شأن هذين الأصلين.
8- وآمن بالرسول صلى الله عليه وسلم رجال أخلصوا دينهم لله، فأحبوه وآثروه على كل شيء، وأحبوا رسوله صلى الله عليه وسلم، وافتدوه بأرواحهم وأنفسهم، وبذلوا الجهد في متابعته وطاعته، وفي تنزيه الله وتقديسه وعبادته، وتحققوا بهذين الأصلين، وقاموا بها خير قيام حتى أثنى عليهم الحق سبحانه وتعالى في آيات كثيرة من كتابه. من ذلك قوله جل وعلا:
{محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود}..الآية (الفتح:29)، فرضي عنهم سبحانه ورضوا عنه، وعرفوه حق معرفته، وقاموا بدينه خير قيام.
وأثنى عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: [خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم] (رواه الشيخان وغيرهما عن ابن مسعود، وغيرهم عن غيره)، وشهد لأفراد منهم بالجنة والفضل، وكان من هؤلاء أبو بكر الصديق رضي الله عنه، الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم : [وزنت بالأمة فرجحت، ووزن أبو بكر بالأمة -لست فيها- فرجح، ووزن عمر بالأمة -لست فيها وأبو بكر- فرجح] (رواه أحمد (2/76) بنحوه وإسناد ضعيف، فيه عبيد الله بن مروان أورده ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل-5/334) ولم يحك فيه جرحاً ولا تعديلاً، وذكره ابن حبان في الثقات، وفيه أيضاً أبو عائشة أورده صاحب (الجرح والتعديل-9/417) ولم يحك فيه كذلك جرحاً ولا تعديلاً، وعلى هذا فهما مجهولان وباقي رجاله ثقات. وروى أحمد (5/44 و 50) وأبو داود (4634) والترمذي (2389-تحفة) وصححه، كلهم عن أبي بكرة أن أحد الصحابة رأى في منامه أن ميزاناً دلي من السماء، فوزن به النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، فرجح النبي صلى الله عليه وسلم، ثم وزن به أبو بكر وعمر، فرجح أبو بكر، ثم وزن عمر وعثمان، فرجح عمر، ثم رفع الميزان. وقد قواه أستاذنا الألباني في (تخريج المشكاة-3/233) بطريقيه).
وقال: [لو كان نبي بعدي لكان عمر] (رواه بنحوه أحمد (4/154) والترمذي (2/293) وحسنه والحاكم (3/85) وصححه وغيرهم، كلهم عن عقبة بن عامر مرفوعاً، وحسنه أستاذنا الألباني في (السلسلة الصحيحة-327) وفي (صحيح الجامع-5160))، وقال لبلال: [إني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة] (رواه البخاري (3/376)-من الفتح) وأحمد (2/333 و439) عن أبي هريرة، ولفظ البخاري: قال النبي صلى الله عليه وسلم لبلال عند صلاة الفجر: [يا بلال، حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة] قال: ما عملت عملاً أرجى عندي أني لم أتطهر طهوراً في ساعة ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي. ودف النعل هو صوت حركتها الخفيف وسيرها اللين)، ونحو ذلك كثير جداً.
9- ومع ذلك فقد حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم طيلة حياته على بقاء أصلي التوحيد "لا إله إلا الله، محمد رسول الله" نقيين صافيين، فما كان يسمح بتاتاً يخدش هذين الأصلين، ولو من أحب الناس لديه وآثرهم عنده صلى الله عليه وسلم.
ومن الأدلة على ذلك:
أ- أنه رأى يوماً بيد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ورقة من التوراة، وكان عمر قد أعجبه ما فيها، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبا ًشديداً، وقال لعمر: [أهذا وأنا بين أظهركم، لقد جئتكم بها بيضاء نقية.. والله لو كان موسى حياً لما وسعه إلا أن يتبعني] (رواه بنحوه الإمام أحمد في مسنده (3/387) والبيهقي في شعب الإيمان، والدارمي(1/115-116) بأتم منه، قال أستاذنا الألباني في (تخريج المشكاة-1/63): "وفيه مجالد بن سعيد، وفيه ضعف، ولكن الحديث حسن عندي لأن له طرقاً كثيرة عند اللالكائي والهروي وغيرهما، وقد خرجت بعضها في (الإرواء-1589)")، وفي هذا الحديث من الفقه:
أولا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم تعجب أن يبدأ الاهتداء بغير الكتاب والسنة وهو ما زال حياً. ومن مقتضى الإيمان بالكتاب والسنة أن يعتقد أن الهدي فيهما وحدهما.
وثانيا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد جاء بالدين نقياً خالصاً، لم تشبه شائبة من تغيير أو تبديل أو تحريف، والصحابة يتلقونه غضاً طرياً خالصاً، فكيف ينصرفون عنه ويهتدون بما شابه التحريف والتبديل والزيادة والنقص.
وثالثا: أن موسى عليه السلام نفسه الذي نزلت عليه التوراة لو أنه حي موجود لكان اللازم في حقه هو متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وترك شريعته التي بلغها للناس.
وهذا الحديث أصل في بيان منهج الكتاب والسنة، وأنه لا يجوز لأحد أن يهتدي بعلم يقرب إلى الله، ويصلح النفس غير الذي بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لو كان أصله من شريعة منزلة علي أحد الأنبياء السابقين.
ب- والدليل الثاني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع خطيباً يخطب بين يديه فكان مما قاله: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : [بئس خطيب القوم أنت، قل: ومن يعص الله ورسوله فقد غوى] (رواه مسلم (6/159-بشرح النووي) وأحمد (4/256 و379).
فهذا الخطيب قد قاطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبَّح قوله أمام الناس، والسبب أنه جمع بين الله ورسوله في ضمير واحد [ومن يعصهما] فأمره الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يعيد ذكر الإسم الظاهر لله ولرسوله، حتى لا يُظن ولو من بعيد أن منزلة الرسول كمنزلة الله عز وجل. وهذا الحرص من الرسول صلى الله عليه وسلم دليل على وجوب صون جناب توحيد الله تبارك وتعالى صوناً كاملاً، ووجوب التفريق التام بين ما يجب لله عز وجل، وما يجب لرسوله صلى الله عليه وسلم.
ج- والدليل الثالث أن عثمان بن مظعون رضي الله عنه، وكان من خيار الصحابة، لما توفي، وحضر عنده الرسول صلى الله عليه وسلم سمع الصحابية الجليلة أم العلاء تقول: شهادتي عليك أبا السائب أن الله قد أكرمك.. فرد الرسول صلى الله عليه وسلم قائلاً: [وما يدريك أن الله قد أكرمه؟] وكان هذا تنبيهاً عظيماً من الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه الصحابية بأنها قد حكمت بحكم غيبي، وهذا لا يجوز، لأنه لا يطلع على الغيب إلا الله عز وجل، ولكنها ردت قائلة: سبحان الله يا رسول الله!! ومن يكرم الله إذا لم يكرمه؟ أي إذا لم يكن عثمان بن مظعون رضي الله عنه ممن يكرمهم الله تبارك وتعالى فمن بقي منا حتى يكرمه الله تبارك وتعالى.
وهذا رد في غاية البلاغة والفهم. ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد عليها بما هو أبلغ من ذلك حيث قال لها: [والله إني لرسول الله لا أدري ما يفعل بي غداً] وكان هذا نهاية الأمر وحسمه، فالرسول بنفسه وهو من هو صلوات الله وسلامه عليه يجب أن يظل خائفاً مترقباً (يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه) وهنا وصلت أم العلاء إلى الحقيقة الشرعية العظيمة فقالت: واللهلا أزكي بعده أحداً أبداً (رواه البخاري (3/358 و6/223 و224 و8/266 و6/49 و69-من الفتح) وأحمد (6/436) عن أم العلاء الأنصارية بنحوه).
وهذا الأصل مقرر في الشريعة في آيات وأحاديث كثيرة، منها قوله تبارك وتعالى: {ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلاً* انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا} (النساء:49 و50) ومنها قوله: {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا} (النساء:123)، وكان هذا رداً على اليهود الذين قالوا: نحن أهل الجنة، ونحن شعب الله المختار، ورداً على النصارى الذين قالوا: بل نحن أهل الجنة، لأننا أتباع ابن الله المخلص للبشر من خطيئتهم، ورد أيضاً على المسلمين الذين قالوا: بل نحن أهل الجنة لأننا أتباع رسوله محمد خاتم الرسل والموحدين، فأخبر تعالى أن الجنة ليست بالأماني، وإنما بالعمل الصالح، وأن من عمل سوءاً يجز به، ولا تنفعه نسبته وروي في الحديث: [من قال أنا في الجنة فهو النار] (فيه إشارة إلى ضعفه، وقد أورده الحافظ السخاوي في المقاصد الحسنة ص423 ضمن الحديث على حديث: [من قال: أنا مؤمن فهو كافر، ومن قال: أنا عالم فهو جاهل] وعزاه إلى (المعجم الصغير للطبراني عن يحيى بن أبي كثير) وقال: وسنده ضعيف، وهو عند الديلمي في مسنده عن جابر بسند ضعيف جداً، ورواه الحارث بن أبي أسامة من جهة قتادة عن عمر بن الخطاب موقوفاً عليه، وهو منقطع).
د- والدليل الرابع أن رجلاً جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال له: ما شاء الله وشئت فقال له صلى الله عليه وسلم : [أجعلتني لله نداً؟ قل ما شاء الله وحده] (رواه أحمد (1/214 و224 و283 و347) والبخاري في (الأدب المفرد-783) وغيرهما، وأورده أستاذنا الألباني في (السلسلة الصحيحة-138) وعزاه إلى مخرجيه وحسنه)، فجعل صلى الله عليه وسلم المشيئة لله وحده، حتى يُعلّم المؤمنين أن لا مشيئة لأحد مع مشيئة الله تبارك وتعالى.
هـ- وأما الدليل الخامس فهو أن بعض الصحابة رضوان الله عليهم مروا في أثناء خروجهم إلى هوازن بعد فتح مكة على شجرة، كان المشركون يعلقون عليها سيوفهم، ظانين أنه من فعل ذلك حالفه النصر في معاركه مع العدو، فقالوا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. أي شجرة ينوطون بها أسلحتهم. فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: [قلتم والذي نفسي بيده كما قال بنو إسرائيل لموسى: {اجعل لنا إلهاً كما لهم ءَالِهَةٌ..} (رواه الإمام أحمد في مسنده (5/218) والترمذي في (سننه–6/407 و408-تحفة) وقال: حديث حسن صحيح، قلت: وإسناده صحيح كما قال، ورجاله رجال الستة غير سنان بن أبي سنان فلم يرو له أبو داود وابن ماجة)، فبين صلى الله عليه وسلم أن هذا من عمل المشركين، وأن مشابهتهم في هذا شرك بالله تبارك وتعالى، إذ طلب البركة والنصر من غير الله عز وجل شرك به تعالى.
10- والأدلة السابقة كلها لبيان أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان ليسمح بتاتاً بخدش الأصل الأصيل في الإسلام، وهو توحيد الله عز وجل، والقول عليه بلا علم. وأخذ الهداية من غيره سبحانه وتعالى، وغير رسوله صلى الله عليه وسلم.
11- وقد سدَّ رسول الله صلوات الله وسلامه عليه باب العرافة والكهانة وادعاء علم الغيب، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن مدعي ذلك كافر، وأن من صدَّق عرافاً أو كاهناً فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن العرافين فقال: [ليسوا بشيء] هكذا بنفي قيمتهم وتحقيرهم، فقال له أصحابه رضوان الله عليهم: ولكنهم يخبروننا أحياناً بالأمر، فيكون كما قالوا، فأخبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن الشياطين تركب بعضها بعضاً وتصل إلى العنان، وتسمع الملائكة تتكلم بالأمر من أمر الله تعالى، فيتعلمونه منهم، فيرسل الله عليهم الشهب، فيلحقهم الشهاب أحياناً فيحرقهم، وأحياناً يلقون الكلمة إلى من هو أسفل منهم قبل الشهاب، فيكذب الشيطان مع هذه الكلمة مئة كذبة، فلذلك يصدق أولياء الشياطين من الإنس مرة، ولكنهم يكذبون كثيراً (رواه مسلم في (صحيحه 14/225-نووي) ولفظه: قالت عائشة: سأل أناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكهان، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ليسوا بشيء]. قالوا : يا رسول الله، فإنهم يحدثون أحياناً الشيء يكون حقاً؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة، فيخلطون فيها أكثر من مئة كذبة]، وأما صعود الشياطين إلى السماء لاستراق السمع، وقذفهم بالشهب فقد ورد في حديث آخر رواه البخاري في عدة مواضع من صحيحه، منها كتاب التفسير (9/452-فتح) عن أبي هريرة، وعزاه ابن كثير إلى أبي داود والترمذي وابن ماجة أيضاً. كما ورد مثله في حديث رواه مسلم في صحيحه (7/36 و37-نووي) وأحمد وغيرهما عن ابن عباس عن رجل من الأنصار).
12- ولما شك الصحابة في (ابن صياد اليهودي) الذي كان يسكن المدينة، وظنوه الدجال الذي حدث عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ الرسول معه جماعة وزاره في منزله قال له الرسول مختبراً: [لقد خبأت لك خبئاً..].
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أضمر في نفسه (سورة الدخان) فسأله الرسول عما في نفسه، فقال عدو الله هو الدخ) ولم يستطع أن يكمل الكلمة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: [اخسأ فلن تعدو قدرك]. أي لن تتعدى كونك كاهناً تتصل بالجن. ولذلك قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم [كيف ترى؟] قال: يأتيني أحياناً صادق وكاذب. أي تأتيه أخبار من الشيطان صادقة أحياناً، وكاذبة أخرى، فقال رسول الله: [لقد لُبِّس عليه] (رواه بنحوه مطولاً البخاري (3/462 و6/512 و13/180-من الفتح) ومسلم (17/46 و58-بشرح النووي) وغيرهما).
وفي هذا الحديث دليل على أن الشيطان من الممكن أن يطلع على ما في نفس المؤمن، ويخبر وليه من الإنس، وأننا مأمورون ألا نصدق من الغيب إلا ما أتانا من طريق الله، ومن طريق رسوله صلى الله عليه وسلم فقط.
وكل هذه الأدلة التي ذكرناها، وغيرها لا يحصى، إنما كانت لتثبت الجانب العقائدي الإيماني في دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبيان أن العقيدة والإيمان بالغيب مصدره الله تبارك وتعالى، وأنه لا يجوز لمسلم بتاتاً أن يتخذ طريقاً آخر للغيب يتلقى عنه، وأن من فعل ذلك فقد خرج من الإيمان بالله تعالى.
ب- الكتاب والسنة منهجاً
للتشريع ميادين كثيرة منها العبادات، والمعاملات، والسياسة وأمور المعاش والحياة، وباب الاجتهاد مفتوح فيها جميعاً إلا العبادات فليس فيها اجتهاد، فكل ما يتقرب به إلى الله تبارك وتعالى من أعمال يجب الوقوف فيها عند الحد المشروع، ولم يسمح الرسول صلى الله عليه وسلم لأحد أن يزيد على ما قال فيها، أو أن يبدل شيئاً منها. وهاك بعض الأدلة التي تثبت هذا الأصل من أصول الإيمان:
أ- رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يمشي في الحج بين رجلين يسندانه فقال صلى الله عليه وسلم: [ما هذا؟] فقالوا: يا رسول الله نذر أن يحج ماشياً. فقال صلى الله عليه وسلم: [إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني!! مروه فليركب] (رواه بنحوه البخاري (4/450 و451-فتح) ومسلم (11/102 و103) وغيرهما عن أنس) فنهى صلى الله عليه وسلم عن فعل لم يشرعه الله عز وجل، وإن كان فاعله قاصداً به التعبد والتقرب إلى الله عز وجل.
ب- ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً آخر يجلس في الشمس فسأل عنه، فقالوا: يا رسول الله نذر أن يصوم، ولا يتكلم ويجلس في الشمس فقال صلوات وسلامه عليه: [ليتم صومه، وليتكلم وليجلس في الظل] (رواه بنحوه البخاري (12/401 و412) وأبو داود (3300) وغيرهما عن ابن عباس) فأقره رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصوم الشرعي فقط، ونهاه عن الصوم المبتدع وهو السكوت. وإن كان مشروعاً في شريعة سابقة كما في قصة زكريا وقول مريم عليهما السلام: {إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسياً} (مريم:26)، ولكن الله عز وجل لم يتعبدنا بهذه الشريعة وأمره بأن يتحول إلى الظل، لأن الجلوس في الشمس مع وجود الظل تكلف سخيف، وخروج عن جادة الحق، وعبادة لم يشرعها الله سبحانه وتعالى.
ج- وأبلغ من الدليلين السابقين حديث عبدالله بن عمرو بن العاص أن أباه شكاه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه زوجه امرأة من أشراف العرب، ومكث يسألها كل يوم: كيف رأيت زوجك؟ فقالت: صالحاً غير أنه لم يطأ لنا فراشاً.. وذلك لخمس عشرة ليلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبدالله بن عمرو بن العاص: [بلغني أنك تصوم النهار وتقوم الليل]، فقال: نعم يا رسول الله. ثم قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: [صم من كل شهر ثلاثة أيام] فقال: يا رسول الله! قال صلى الله عليه وسلم: [خمساً]. قال: يا رسول الله! قال: [سبعاً]. قال: يا رسول الله! قال: [تسعاً]، ثم قال له في النهاية: [صم صيام أخي داود كان يصوم يوماً، ويفطر يوماً ولا يفر إذا لاقى] (هذا الحديث مركب من روايتين رواهما مسلم في صحيحه (8/44-47 نووي) بنحوه، كما روى نحوه البخاري (5/124 فتح)).
وفي هذا الحديث من الفقه أن منهج الإسلام هو الإعتدال بين حاجات الإنسان كلها فيعطي الإنسان حق ربه، ولا ينسى في سبيل ذلك حق زوجه ونفسه، وعينه وقوته. ولذلك جاء في الحديث الصحيح: [إن لربك عليك حقاً، ولزوجك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه] (رواه البخاري (5/114 فتح) في قصة سلمان وأبي الدرداء، وفيه أن المتكلم بهذا هو سلمان، وقد صدق النبي صلى الله عليه وسلم كلامه هذا. وفي قصة ابن عمرو الجملتان الأوليان منه مرفوعتين).
وهنا لفظه في الحديث يجب أن نقف عندها طويلاً، وهي أن المسلم لا يجوز أن يصوم صوماً يضعفه حتى إنه ليفر من العدو، ولذلك قال الرسول لعبد الله: [فصم صيام داود كان يصوم يوماً، ويفطر يوماً، ولا يفر إذا لاقى] وهذه القوة البدنية للقاء العدو مطلوبة في الإسلام، لأن الجهاد هو من أعلىمراتب الإسلام. فالذين يميتون قواهم بالتعبد ولو كان أصله مشروعاً، ويطغى هذا على جانب آخر من العبادة فإنهم مفرطون بهذا الفعل، عاصون لله تبارك وتعالى من جهة أخرى.
د-وفي الحديث الصحيح الآخر أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صومه، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً، وجلس عمر بن الخطاب يقول: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً حتى سكن غضب النبي صلى الله عليه وسلم (رواه مسلم (1/49-51) عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه بنحوه مطولاً)، وسر غضبه صلوات الله وسلامه عليه أن هذا السائل أراد أن يضاهي فعل الرسول في هذه العبادة التي كان له فيها خصوصية، وهي أنه يواصل اليوم واليومين والثلاثة وكان يُسأل صلى الله عليه وسلم عن ذلك فيقول: [لست كهيئتكم إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني] (رواه مسلم (7/212 و215) بنحوه عن أبي هريرة وعائشة وأنس رضي الله عنهم).
هـ- وأبلغ هذه الأدلة كلها في مسألة التعبد والتقرب، أنه لا يجوز فيه إلا اتباع المشروع، والتقيد بالكتاب والسنة هو حديث النفر الثلاثة الذين أتوا إلى بيوت النبي صلى الله عليه وسلم، فسألوا عن عبادته، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقال أحدهم: وأين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم! إن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. أما أنا فأقوم ولا أنام، وقال الآخر: أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الثالث: أما أنا فلا أتزوج النساء. فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبر خبرهم صعد المنبر، وجمع الناس ثم قال: [ما بال أقوام يقولون كذا.. أما إن أعلمكم بالله، وأتقاكم لله أنا، أما إني لأصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني] (رواه البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه وليس فيه صعود المنبر وجمع الناس).
وفي هذا الحديث من الفقه شيء كثير ويهمنا الآن ما نحن بصدده، وهو أن أي تجاوز فيما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في العبادات التي يتقرب بها إلى الله عز وجل، فمعنى ذلك الخروج من منهج الإسلام إلى منهج آخر حتى ولو صلحت النيات، وأريد بذلك وجه الله عز وجل، فإن الرب تبارك وتعالى لا يُعبد إلا بما شرع.
وأمر آخر وهو أن تجاوز فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، سواء كان بتشريع جديد كالترهُّب، أو الزيادة في المشروع كالصيام أبداً، وقيام الليل كله هو اتهام للرسول صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن في القمة من معرفة الله تبارك وتعالى، والقيام بحقه. ولذلك قال أولئك النفر: وأين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، يعنون أن الله قد غفر ذنوبه، فليس بمحتاج إلى اجتهاد في العبادة، ومعنى هذا أن الرسول قد ترك شيئاً من وسعه في العبادة استناداً إلى هذه المغفرة، والحظوة عند الله تبارك وتعالى، وهذا من الاعتقادات التي لا تليق في حق الرسول صلى الله عليه وسلم الذي ما ترك وسعاً في عبادة الله وطاعته، وكان صلى الله عليه وسلم في القمة دائماً، وفي المقدمة دائماً كما أمره بذلك ربنا سبحانه وتعالى حيث قال: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين* لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين} (الأنعام:162و163)، فهو صلى الله عليه وسلم أول المسلمين في كل شيء، فلا يجوز لمسلم أن يظن فيه غير ذلك، والزيادة علي ما شرعه إنما هي اتهام له صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال: [إن أعلمكم بالله، وأتقاكم لله أنا] ثم فاصل بين من أراد طريقه بالالتزام، ومن لم يلتزم قال له [فمن رغب عن سنتي فليس مني].
16- ولم يكتف الرسول صلى الله عليه وسلم ببيان كل ذلك، بل أعلن في كل خطبة من خطبه للناس : [وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار] (هاتان الجملتان جزء من خطبة الحاجة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبدأ بها خطبه، والجملة الأولى عند مسلم والبيهقي، وهي الجملة الثانية عند النسائي، وإسناده صحيح، وانظر رسالة (خطبة الحاجة) لأستاذنا الألباني فقد جمع فيها طرقها ورواياتها)، وقال أيضاً : [من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد] (رواه البخاري ومسلم) فكل عمل محدث يراد له التقرب إلى الله عز وجل فهو مردود على صاحبه، والتعبد هو بالمشروع فقط.
17- ولقد أصل الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أصلاً خطيراً، وهو تعمد مخالفة أهل الكتاب والأمم الأخرى، وذلك حتى تتحقق ميزة الأمة بالمنهج المستقل والأفعال المستقلة، وحتى لا تختلط أفعال الأمة وعباداتها بأفعال الأمم الأخرى وعباداتها، فأمر أن نصلي بالنعال والخفاف مع العلم أن خلعها أتم لمعاني الخضوع والذلة، وذلك مخالفة لليهود والنصارى الذين لا يصلون في خفافهم ونعالهم. فقال: [إن أهل الكتاب لا يصلون في خفافهم ونعالهم، فصلوا في خفافكم ونعالكم] (رواه أبو داود (652) عن شداد بن أوس، وإسناده صحيح، ولفظه: [خالفوا اليهود، فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم] وصححه الألباني في (صحيح الجامع-3205) و (تخريج المشكاة-765)).
ولهذا الأصل أدلة وشواهد لا تحصى كثرة (من أجمع الكتب المؤلفة في ذلك كتاب (اقتضاء الصراط المستقيم) لشيخ الإسلام ابن تيمية والفصل الخاص بحرمة التشبه بالكفار من (حجاب المرأة المسلمة) للألباني)، والمراد هنا التنبيه على أن الأمة الإسلامية يجب أن تكون أمة مستقلة في كل شيء: المنهج والعبادة، والسلوك والآداب والعبادات، وحتى اللباس والمظاهر والعادات.
18- وأرجو أن أكون بهذه المقدمة قد أوضحت جانباً من هذه القضية: قضية الالتزام بالكتاب والسنة عقيدة وعبادة، وسلوكاً وآداباً بالمشروع فقط.
الصحابة رضوان الله عليهم والأصلان السابقان:
19- فهم الصحابة رضوان الله عليهم هذا الأصل الأصيل لأنه مقتضى قولهم "لا إله إلا الله محمد رسول الله" فاتبعوا هذا الأصل، وكانوا حراساً له، فما شاهدوا انحرافاً ولو يسيراً إلا شددوا نكيرهم على فاعليه، وبتروه من أصله. ومن أكبر الأدلة على ذلك أن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه دخل المسجد في الكوفة فرأى حلقاً، وفي وسط كل حلقة كوماً من الحصى، ورجل قائم على كل حلقة يقول لهم: سبحوا مئة فيسبحون مئة. احمدوا مئة فيحمدون مئة، كبروا مئة، فيكبرون مئة؛ فقال لهم ابن مسعود رضي الله عنه: يا قوم! والله لأنتم على ملة هي أهدى من ملة رسول صلى الله عليه وسلم أو مقتحموا باب ضلالة (رواه الدارمي (1/68) بتمامه مع بعض اختلاف، وإسناده جيد، وصححه أستاذنا الألباني في رسالة (الرد على التعقب الحثيث ص45))، وهذه قضية منطقية سليمة، فهؤلاء إما أن يكونوا أهدى من الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنهم قد وفقوا لعمل لم يصل إليه علم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإما أن يكونوا في ضلالة، والفرض الأول منتف حتماً، لأنه لا أحد أفضل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يبق إلا الفرض الآخر، وهو أنهم قد اقتحموا باب ضلالة، فقالوا: والله يا أبا عبدالرحمن ما أردنا إلا الخير، وهذا دليل منهم على صلاح نياتهم، وإرادتهم وجه الله تبارك وتعالى بهذا العمل المبتدع. ولكن عبدالله بن مسعود قال لهم: "وكم من مريد للخير لم يبلغه"!! وهذا معناه أن النية وحدها لا تكفي لتصحيح الفعل، بل لا بد أن ينضاف إلى ذلك التقيد بالمشروع.
20- وبالغ الصحابة رضوان الله عليهم في حماية جناب الدين وجانبه أن يدخل فيه الغريب، وما ليس منه حتى يصفو للناس التأدب بالأدب الخالص، والتخلق بالخلق الكامل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فطرد علي بن أبي طالب رضي الله عنه القصاصين من المساجد، وهم الوعاظ الذين يعظون الناس، ويزعمون ترقيق قلوبهم بالقصص الخيالي، والحكايات والأساطير، وأنكر ابن عمر على رجل عطس، فقال: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله قائلاً له: "ما هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بل قال إذا عطس أحدكم فليحمد الله ولم يقل: وليصل على رسوله"!! (رواه بنحوه الترمذي (8/9 تحفة) وفيه ضعف، ورواه أيضاً الطبراني والبزار فينظر اسناده فيهما، فلعله يقوى به).
الحقائق.. والموازين:
وبمجموع هذه الأدلة يتضح لنا الحقائق التالية لفهم قضية الكتاب والسنة:
أولاً: الهدى هو ما كان من الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فقط {قل إن هدى الله هو الهدى} {فماذا بعد الحق إلا الضلال}.
وإن هذا الهدى محصور في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فقط، وليس وراء هذا طريق ثالث يقرب إلى الله، ويباعد عن النار.
ثانياً: إن كل عقيدة تخالف كتاب الله وسنة رسوله هي عقيدة باطلة يجب حربها والقضاء عليها.
ثالثاً: إن كل زيادة أو نقص في تشريع العبادات والسلوك يراد به التقرب إلى الله تبارك وتعالى، وإصلاح النفس إنما هو بدعة مرفوضة، حتى لو كان صدر هذا ممن ينتسبون إلى الإسلام ويدعون إليه.
رابعاً: إن كل من ادعى علماً غيبياً في كتاب الله وسنة رسوله، زاعماً أنه قد وصل بطريق الجن أو الفيض أو الفتح، أو الاتصال بالسماء إنما هو كاذب مارق.
خامساً: إن أقوال العلماء في أمور الدين لا تؤخذ قضية مسلمة قط، بل لا بد من عرضها على الكتاب والسنة، فما وافق أخذ وما خالف ذلك رد، وإذا جاز لنا أحياناً الأخذ بها والعمل بها إذا لم نعلم الدليل، فإنما ذلك إلى حين معرفتنا بالدليل، ومتى عرفنا الدليل حكمنا به على القول.
سادساً: إن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا أعبد الناس، وأتقى الناس، وأنهم تحققوا بهذين الأصلين: الكتاب والسنة، وأن من كان على مثل ما كانوا عليه فقد اهتدى، ومن شذ يميناً أو يساراً فقد ضل.
--------------------------------------------------------------------------------
الباب الثاني
مجمل تاريخ الشريعة الصوفية
الفصل الأول
لمحة سريعة عن تاريخ التصوف
لا يعرف على وجه التحديد من بدأ التصوف في الأمة الإسلامية ومن هو أول متصوف وإن كان الإمام الشافعي رضي الله عنه عندما دخل مصر قال: تركت بغداد وقد أحدث الزنادقة فيها شيئاً يسمونه السماع.. والزنادقة الذين عناهم الشافعي هنا هم المتصوفة (والسماع) هو الغناء والمواجيد والمواويل التي ينشدونها ومعلوم أن الشافعي دخل مصر سنة 199هـ وكلمة الشافعي توحي بأن قضية السماع هذه قضية جديدة ولكن أمر هؤلاء الزنادقة يبدو أنه كان معلوماً قبل ذلك. بدليل أن الشافعي قال كلاماً كثيراً عنهم كقوله مثلاً (لو أن رجلاً تصوف أول النهار لا يأتي الظهر حتى يكون أحمق) (تلبيس إبليس لابن الجوزي ص370) وقال أيضاً: ما لزم أحد الصوفية أربعين يوماً فعاد إليه عقله أبداً (المصدر السابق ص370)، وكل هذا يدل على أنه قد كان هناك قبل نهاية القرن الثاني الهجري فرقة معلومة عند علماء الإسلام يسمونهم أحياناً بالزنادقة وأحياناً بالمتصوفة..
وأما الإمام أحمد فقد كان معاصراً للشافعي وتلميذاً له في أول الأمر فقد أثر عنه أقوال كثيرة في التنفير من أفراد معينين نسبوا إلى التصوف. كقوله في رجل جاء يستفتيه في كلام الحارث المحاسبي: قال أحمد بن حنبل: "لا أرى لك أن تجالسهم" وذلك بعد أن اطلع أحمد بن حنبل على مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها للبكاء -ومحاسبة النفس كما يزعمون- والكلام على الوساوس وخطرات القلوب. فلما اطلع الإمام أحمد على ذلك قال لسائله محذراً إياه من مجالستهم وكتبهم "إياك وهذه الكتب، هذه كتب بدع وضلالات". والذي يبدو أن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه قال هذا الكلام في مطلع القرن الثالث، ولكن هذا القرن ما كاد يكتمل حتى ظهر التصوف على حقيقته، وانتشر في الأمة انتشاراً ذريعاً، واستطاع المتصوفة أن يظهروا ما كانوا يخفونه سابقاً.
والمطلع على الحركة الصوفية من أول نشأتها إلى حين ظهورها العلني على ذلك النحو يجد أن أساطين الفكر الصوفي جميعهم بلا استثناء في القرن الثالث والرابع الهجريين كانوا من الفرس ولم يكن فيهم عربي قط، وعند مقابلة الدين الصوفي ستجد أن التصوف هو الوجه الآخر للتشيع (اقرأ الفصل الخاص بذلك: الصلة بين التصوف والتشيع) وأن أهداف التصوف والتشيع كانت واحدة تقريباً، في السياسة والدين،،..، والمهم هنا هو التذكير بأن التصوف بلغ غايته وذروته من حيث العقيدة والتشريع في نهاية القرن الثالث حيث استطاع الحسين بن منصور الحلاج أن يظهر معتقده على الملأ ولذلك أفتى علماء العصر بكفره وقتله فقتل سنة 309هـ وصلب على جسر بغداد، وسئل الصوفية الآخرون فلم يظهروا ما أظهر الحلاج.. وسيأتي وصف تفصيلي لعقيدة الحلاج عند بيان العقيدة الصوفية.
وعلى الرغم من ذلك فإن الصوفية ظلت تواصل انتشارها في أرض فارس على الخصوص ثم العراق.. وساعد على انتشارها في فارس أن أقام رجل يسمى أبو سعيد الميهني نظاماً خاصاً للخانات الذي أصبح فيما بعد مركزاً للصوفية، وقلده في ذلك عامة رجال التصوف ومن هنا نشأت في منتصف القرن الرابع الهجري بدايات الطرق الصوفية التي سرعان ما انتشرت في العراق ومصر، والمغرب، وفي القرن السادس ظهرت مجموعة من رجال التصوف كل منهم يزعم أنه من نسل الرسول صلى الله عليه وسلم واستطاع كل منهم أن يقيم له طريقة صوفية خاصة وأتباعاً مخصوصين، فظهر الرفاعي في العراق، والبدوي في مصر وأصله من المغرب ولا يعرف له أم ولا أب ولا أسرة ولا هو من المغرب، وكذلك الشاذلي في مصر وأصله كذلك من المغرب. وتتابع ظهور الطرق الصوفية التي تفرعت من هذه الطرق، وفي القرون السادس والسابع والثامن.. بلغت الفتنة الصوفية أقصاها وأنشئت فرق خاصة بالدراويش وظهر المجاذيب وبنيت القباب على القبور في كل ناحية، وذلك بقيام الدولة الفاطمية في مصر وبسط سيطرتها على أقاليم واسعة من العالم الإسلامي، وبنائها للمزارات والقبور المفتراة كقبر الحسين بن علي رضي الله عنهما في مصر والسيدة زينب، وإقامتهم بعد ذلك الموالد والبدع والخرافات الكثيرة، وتأليههم في النهاية للحاكم بأمر الله الفاطمي؛ لقد بدأت الدعوة الفاطمية بالمغرب لتكون بديلاً للحكم العباسي السني، واستطاعت هذه الدولة تجنيد هذه الفرق الصوفية وغزو العالم الإسلامي بهذه الجيوش الباطنية التي كان لها أعظم الأثر بعد ذلك في تمكين الجيوش الصليبية من أرض الإسلام كما ستطالعه بأدلته في هذه الرسالة.
وأخيراً عم الخطب وطم في القرون المتأخرة التاسع والعاشر والحادي عشر إذ ظهرت آلاف الطرق الصوفية، وانتشرت العقيدة والشريعة الصوفية في الأمة، واستمر ذلك إلى عصر النهضة الإسلامية الحديثة.
لقد بدأت طلائع هذه النهضة ومقدماتها في آخر القرن السابع وبداية القرن الثامن على يد الإمام المجدد أحمد بن عبدالحليم بن تيمية الحراني الذي صاول كل العقائد المنحرفة بقلمه وبيانه ومن جملة ذلك عقائد المتصوفة وشرائعهم المبتدعة ولاقى في هذا ما لاقى (اقرأ الفصل الخاص بمناظرة ابن تيمية للرفاعية البطائحية) وجاء تلاميذه من بعده مجاهدين في هذا الصدد كابن القيم، وابن كثير، والحافظ الذهبي، والحافظ المزني، وغيرهم،.. ولكن شوكة التصوف والتخريف والعقائد الباطلة كانت قد تمكنت من الأمة تمكناً عظيماً، ولكن الله سبحانه وتعالى هيأ للأمة في القرن الثاني عشر الهجري الإمام الجليل محمد بن عبدالوهاب الذي تتلمذ على كتب شيخ الإسلام ابن تيمية فقام مصاولاً هذا الباطل الذي عم الآفاق وقد حقق الله على يديه ظهور النهضة الإسلامية الحديثة فقد استجاب لدعوته المخلصون في كل أنحاء العالم الإسلامي وتردد صداها في الهند والسودان ومصر والشام وكل بلاد الإسلام، ومنذ ذلك الوقت بدأت الحركة الصوفية تتعرى أوراقها شيئاً فشيئاً، وتبدد عقيدة التوحيد ظلامها، وتزيل من نفوس الأمة ترهاتها وخرافاتها..
واليوم بحمد الله يكتسح طوفان الحق جيش الباطل ويعود التصوف مرة أخرى إلى الإنجحار والاستتار كما بدأ وكما هو دائماً شأن العقائد الباطنية، ولكن ما زالت دولة الصوفية قوية في أنحاء كثيرة من العالم الإسلامي وخاصة في أفريقيا ودول من آسيا. حيث العربية غير معلومة وحيث الجهل بالتوحيد والدين الصحيح ما زال قائماً، ثم إن رموز التصوف ما زالت موجودة وأعني برموزه القبور والمزارات والشيوخ الضالين والعقائد الفاسدة؛ كل ذلك ما زال موجوداً، وهو يحتاج إلى جهد جهيد، وجهاد طويل لاقتلاع آثاره في القلوب والنفوس والأرض. وفي الفصل الخاص بالطرق الصوفية سيرى القارئ بعض هذا الواقع القائم إلى اليوم.
..هذه لمحة سريعة مجملة لنشأة الفكر الصوفي وتطوره..